في الأسبوع الماضي تم الإعلان عن التشكيلة الوزارية الجديدة في العراق، بعد استعصاء سياسي دام شهورا. ومع هذا الإعلان ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الفضائية العراقية، بنقل فيديوهات تصوّر حالة الاحتفال التي أقامتها عائلة وزير جديد وأقرباؤه وأبناء قبيلته. فقد ظهر عدد كبير من الرجال وهم يطلقون الأعيرة النارية في الهواء، ابتهاجا بهذا الاستيزار. وقد بدا واضحا أن البعض كان يستخدم أسلحة مختلفة الأنواع والمديات، بعضها خفيف ومتوسط. وكان الرجال يتبارون في ما بينهم في كمية العيارات النارية التي يطلقونها، حيث تتناسب كمية الإطلاقات طرديا مع درجة القرابة مع الوزير. فتصبح أكثر كثافة كلما كانت القرابة من الدرجة الأولى، أو الثانية، ثم نزولا إلى الدرجات الأخرى، يليها الأصدقاء والمعارف.
وعلى الرغم من أن ظاهرة إطلاق الأعيرة النارية ظاهرة اجتماعية معروفة ومتوارثة، وموجودة في منظومة القيم العراقية والعربية منذ زمن بعيد، ويجري التعبير بها عن حالتي الفرح والحزن، لكن معانيها اختلفت جذريا في العصر الراهن، وفي الظروف التي يمر بها العراق. فقديما كانت هذه الظاهرة تحمل معنى قيميا محدودا ألا وهو الإشهار، أي أن المعنين بحالتي الفرح أو الحزن يحاولون من خلال إطلاق الأعيرة النارية، تثبيت هاتين الحالتين في إسماع الناس كي يشاركوهم في ما هم فيه. وهذه الدعوة للمشاركة كان الهدف منها رص الصفوف وزيادة اللحمة الاجتماعية، لكن التغيرات التي طرأت على الواقع العراقي بعد الاحتلال في عام 2003، أفرغت الكثير من القيم الاجتماعية وحتى الدينية من معانيها، ثم أعادت تشكيلها وفق الظرف الراهن، كي تخدم الحالة التي يريدها المحتل. فأصبح إطلاق العيارات النارية يشمل الاستيزار والفوز بمقعد برلماني، وعضوية مجلس إدارة محافظة، ومنصب وكيل أو مدير عام، نزولا إلى نجاح طالب من صف إلى آخر، أو اجتيازه الامتحانات العامة بمعدل جيد يؤهله إلى الجامعة. ولو تم البحث في خلفيات هذا الموضوع لوجدنا أن إطلاق الأعيرة النارية على هذه الشاكلة، ليس من قبيل الإشهار بغرض المشاركة الاجتماعية، لأنه أصلا لا توجد مناسبة اجتماعية، بل هو إعلان عن حيازة مصدر من مصادر السلطة والجاه والمال. وهذه كلها تعطي من حازها سلطة أكبر، ألا وهي الارتفاع فوق هامة القانون والعدل والإنصاف، وإطلاق اليد في كل ما هو مشروع وغير مشروع. وبالتالي هي تعلية كعب على حساب طرف آخر، أو موازنة رعب مع جهة أخرى تحمل المواصفات والامتيازات نفسها. وبذلك سقط اليقين الذي كان الناس يعتصمون به من أن الوزارة، أو الدائرة الحكومية أو المؤسسة وجدت من أجلهم، ولتنظيم شؤونهم الحياتية اليومية والمستقبلية. كما غاب عن أذهانهم ذلك الدور المنوط بمن يتصدر المنصب في هذه الكيانات الحكومية، سواء كان وزيرا أو مديرا عاما، أو أي مسؤول من أي درجة، والمحدد بالتخطيط والإشراف والتنفيذ وصيانة الحقوق وتنفيذ الواجبات. فقد باتت الوزارة مُلك الحزب أو الميليشيا، وأن مهمتها الأولى والأخيرة هي حصر مواردها المادية والمعنوية لصالح الجهة التي استولت عليها. كما أصبح الوزير مجرد حاجب يقف خلف الزعيم السياسي أو الميليشياوي، يأمره فيطيع ويُنّفذ، بعد أن أقسم على القرآن أمامه بذلك. وتبع كل ذلك سقوط هيبة الدائرة الحكومية والوزير معا، فانتعشت سلطة الموظفين بعد أن بات الوزير مجرد دمية، ويده خالية من سوط المحاسبة. وأصبحت الرشوة، جزءا من النظام الإداري القائم في المؤسسات الحكومية. ويبدو أن غالبية الناس استمرأت هذا المسار، وأصبحوا يعرضون الأموال على الموظف الحكومي كي يسيل لعابه وينفّذ لهم ما يريدون. كما فقدت الجرأة موقعها من قلوب الكثيرين، ولم يعد أحد حتى يفكر في أن يصرخ بوجه المسؤول الذي يطالب بالرشوة فيفضح فعله.
أكبر حجر لقم به الغزاة منظومة القيم الاجتماعية في العراق، هو أنهم أعطوا كل فريق طائفي وإثني وقبلي حصة سياسية
إن أكبر حجر لقم به الغزاة منظومة القيم الاجتماعية في العراق، هو أنهم أعطوا كل فريق طائفي وإثني وقبلي حصة سياسية. ومن هنا أخذت الطائفة والإثنية والقبيلة وظيفة لأول مرة في أن تكون جزءا من السياسة. بالتالي جرى اقتسام الوزارات ومؤسسات الدولة والمناصب الحكومية بين هذه الأطياف المجتمعية. وأصبح الناس يتسقطون أخبار من استوزر في هذه الوزارة أو تلك، ومن حصل على منصب في هذه الدائرة الحكومية والأخرى، ومن أين هو وما هي القبيلة التي ينتمي إليها، أو الطائفة التي يتبع منهجها، ظنا منهم إن كان من قبيلتهم أو طائفتهم، فإن ذلك يرتب لهم حقوقا وامتيازات في تلك الوزارات. كما ارتفعت نبرة التباهي والتفاخر بأن هذا الوزير من قبيلتنا، وذاك المدير العام من طائفتنا. وأخذ التدافع في هذا المجال ينسحب حتى على سلوك الناس في الشارع والمحلة ومواقع التواصل الاجتماعي، فيهبون للدفاع عن وزيرهم الفاسد حين يُتهم بالفساد. وقد حصلت خصومات كبيرة في هذا المجال، حتى إن العشائر ذهبت لعقد جلسات فصل عشائري بسبب تهمة أطلقها مواطن على وزير أو مسؤول. يقينا أن كل عراقي سواء كان في الداخل أو كان يعيش في خارج الوطن، بات يلمس بشكل محسوس تراجع القيم الاجتماعية. فلم يعد المجتمع يدين السارق، بل يُمجده ويقول إنه بز أقرانه واستغل الفرصة التي سنحت. ويحط من قدر الآخر الذي لم يمد يده إلى المال العام، ولم يرتشِ، فيلصق به صفة الجُبن وعدم حسن التصرف، بل إن الناس باتوا يفضلون الأول على الثاني، حتى في الزعامات الوجاهية، ويقولون من الأفضل لنا أن نسير مع الزعيم العشائري، الذي يملك المال بغض النظر عن مصادره غير الشرعية، لأن ماله يجعله قويا أمام الآخرين. إن إطلاق العيارات النارية بمناسبة استيزار أحدهم في العراق، هي مرآة للحالة السياسية والاجتماعية والنفسية التي يعيشها هذا البلد. إنه تسليط لحزمة ضوء على حالة الانحطاط التي يمر بها العراق، والتي من أهم مظاهرها هو ارتهان منظومة القيم الاجتماعية بالسياسة، في حين أن السياسة لها دروب موحشة ومسارات موحلة، بينما القيم الاجتماعية عندما تكون بلا مضمون تصبح فاقدة للمصداقية، وليست أكثر من عبارات يتغنى بها الناس، رغم إنها بصلاحية استعمال منتهية، بعد أن بات الناس يمجدون السارق والقاتل والمجرم والخائن لبلده.
لقد جردت السياسة منظومة القيم الاجتماعية من مضامينها، وجعلتها مجرد بوق لها ففقدت قيمتها، وبات الناس يقولون لك بصريح العبارة، هذا الكلام لم يعد له سوق في هذا العصر وفي هذا البلد، وإذا أردت أن تعيش فسر مع الركب وادفع للمرتشي، ومجّد السارق الذي عرف كي تؤكل الكتف، وصفق لكل من يصل إلى المنصب من أجل الإثراء، وليس تقديم خدمة عامة. وهذه الحال هي التي أوصلتنا أن يستوزر السارق على بيت المال، ويستوزر المجرم على القضاء، ويستوزر الخائن على الأمن القومي للبلاد، وأن تهزج القبيلة لابنها الذي يحمل صفة مسؤول فاسد.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
كلام مؤلم لكنه عين الحقيقه للاسف.
”ما كان في ماضي الزَّمانِ مُحَرَّمًا
لِلنَّاسِ في هذا الزَّمَانِ مُبَاحُ
صاغوا نُعُوتَ فضائلٍ لِعُيُوبِهِمْ
فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ والإِصلاَحُ
فالفَتْكُ فَنٌّ وَالخِداعُ سياسَةٌ
وغِنَى اللُّصُوصِ بَرَاعةٌ ونجاحُ
شعر : سامي طه
ظهر الفسادُ ورفرفت راياتهُ
ولبئس ما رفـَّـتْ من الراياتِ
وتظاهرتْ وتناصرت اركانهُ
من كلِّ ذي سـفـلٍ حقير الذاتِ
فهم العصابةُ ذاتَ ابشعِ منهجٍ
تسعى … لتبلغَ ابشعَ الغاياتِ
فتكادُ تشعر بالهواء ملوثاً
من عهرِهِم في زحمة الطرقاتِ
فعلى المكاتبِ شارةٌ من فاجرٍ
تدعو لأكل السحتِ بالرشواتِ
وترى الزنيم اذا تعاظم بينهم
من فرط بلع المال بالسرقاتِ
وكأنه حبلى الزنا من فاحشٍ
جمع الخنا بتراكم الشهواتِ
وتفوح منه روائحٌ لو أنها
هبتْ على قُطرٍ من الجناتِ
تركته تذروه الرياح مهشماً
لم تَـبـقَ فـيـه بقـيـةٌ لحـيـــاةِ
لا تعجبوا من فعل جيشٍ زاخرٍ
مِـن كَـيـدِ فُـسَّــــادٍ بـهِ وعُــتـــاةِ
لا تعجبوا … من كل ضرٍّ مسَّكُمْ
…. منهم …. وكُــــلِّ إساءةٍ مُـدناةِ
وسقوط صرحٍ للحضارة شامخٍ
بالامس كـــــــــــان ذخيرةً لاُباةِ
وضياعِ كل فضيلة ما بيننا
ونفوق كل بضاعةٍ مُزجاةِ
غمطـُ الحقوقِ رذيلةٌ من شأنها
……. تحطيمُ مجتمعٍ وشَلُّ بـُناةِ
بنية المجتمع العربي هي قبلية عشائرية ، وقد عانت الدولة العربية الحديثة من ويلات وتدخلات القبيلة في شؤون السياسة وإدارة الدولة ، وبينما هادنت القبيلة في الخليج نظام الدولة ، ولم تشاغب عليها كثيرا ، ظلت تنهش في جسد الدولة في المغرب والمشرق العربي حتى قضت عليها وأعادتها إلى قرون التخلف والعصبية العمياء.
ما أحلى سؤال (د مثنى عبدالله) في عنوان (هل تغيرت منظومة القيم الاجتماعية العراقية؟) نشرته له جريدة القدس العربي، البريطانية، بالذات،
في سياق إعلان عن سلسلة من أكبر سرقات، لعدة مصادر، من أموال إيرادات الدولة، وأحب أضيف منذ متى بدأت ولماذا حصل هذا التغيير، من وجهة نظري، وما دليلي على ذلك؟!
لأن تصريح (صدام حسين) قطع أعناق ولا قطع أرزاق، بعد تاريخ 8/8/1988، يلخص مفهوم المسؤولية، أو أسلوب الإدارة والحوكمة في الدولة/الشركة/الأسرة بشكل عام داخل (العراق).
وكان التصريح كردة فعل، على عرض أسعار أقل من أسعار (العراق)، لزبائن منتجات الطاقة، بواسطة بعض دول مجلس التعاون في الخليج العربي،
اعتذرت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، بينما الكويت، لم تعتذر، بحجة كل شيء جائز في المنافسة عند العرض والطلب، عند التجارة في أي سوق،
فحصل ما حصل يوم 2/8/1990، ونتيجة لذلك عانى (العراق) حصار من الأمم المتحدة حتى 9/4/2003،
ومن هنا معرفة أهمية في أجواء سوق (العولمة)، ومن أجل الوصول إلى فهم كيف يتم صياغة أي قرار بأقل (الأضرار)، عند الفوز في أي منافسة، لأي سياق زمني (منطقي) أو مكاني (موضوعي)،
من المهم، معرفة كيف تتم عملية سياسة الضغط/التأثير على دولنا،
وهذا ما نجح فيه ممثل الإعلام (السعودي)، من إخراجه من ممثل السياسة/الإعلام (الكويتي)،
كذلك يجب الإنتباه إلى أن كل مسؤول، في حديثه مع ممثلي الإعلام العربي شيء، وحديثه مع ممثلي الإعلام الغربي شيء آخر
كما أوضح ذلك رئيس تحرير جريدة (القبس) قبل 2/8/1990،
لأن الإعلام والإقتصاد في الكويت، قبلها كان يختلف عن الإعلام في الكويت بعدها، مع الأسف تماماً، كما كان هو حال موضوع (الكفيل/الأرباب)، في كل دول مجلس التعاون في الخليج العربي، والذي كان سبب رغبة (دونالد ترامب) في عام 1989 نقل كل نشاط مقاولاته، إلى الكويت بالذات أو بقية دول مجلس التعاون،
لا حدود للفساد في عراق اليوم فقد اكتسح كل الميادين.
تحول الدين الى أداة لتبرير بعض أنواع الفساد: كما ان السائل النازل من السماء (الماء) مباحاً للناس فان السائل الخارج من الأرض (النفط) كذلك مباح مما سهل عمليات النهب الكبرى على ايدي الملشيات الولائيه.
تماما كالطائفيه التي اصبحت شرف.
تحية للجميع
تغيرت منظومتنا الاجتماعية من اول قذيفة مدفع اطلقت في الحرب العراقية الايرانية وكانت بعدها المؤشر الاول لبدء الفساد وازداد المؤشرصعودا في فترة الحصار الاقتصادي ومن ثم ترسخ واصبح امرا شائعا وعاديا ومقبولا في المجتمع ومع صعود نجم العشائرية كذلك في نفس الوقت وسقوط النظام بعد ٢٠٠٣ كانت حماية الفساد امرا اكثر سهولة من السابق وتم هنا تسليم راية الفساد للقادمين الجددمدعومة بالاسلام السياسي ورجال الدين الذين خلفه وقوة العشيرة
هذا هو الواقع المشاهد مع الأسف