حسب مركز الزيتونة للأبحاث والاستشارات، فإنّ عدد المجازر التي جرت على أرض فلسطين من عام 1937 حتى 1948 يقدّر بخمس وسبعين مجزرة، وصل عدد ضحاياها مجتمعة إلى حوالي 5000 آلاف شهيد وآلاف الجرحى، أشهرها مجزرة الطنطورة التي حصدت حوالي 200 شهيد، أما الدوايمة فقد جرت على دفعات لتصل إلى حوالي 500 شهيد، كذلك فلمجازر اللد والرملة بضع مئات لكلٍ منهما.
أما الاحتلال اليوم فيرتكب في قطاع غزة، منذ هجوم السّابع من أكتوبر الماضي، مجازر تحصد مئات الفلسطينيين في اليوم الواحد.
في همجية غير مسبوقة، جرى ويجري تجريف مدافن للشهداء الفلسطينيين بالجرافات العملاقة، وإخراج الجثث من الحُفر وبعثرة أعضائها إمعاناً في الإجرام والهمجية والانتقام. صحيح أنّه كان هناك تجريف للقبور والمقابر من قبل، كانت بهدف إخفاء معالم قرى مهجّرة، وتهيئة الأرض لبناء أو فتح شوارع فوقها، ولكن ما جرى ويجري في قطاع غزة اليوم، تجاوز كلّ ما سبق من تاريخ الاحتلال القذر.
عمليات النّسف والهدم المنهجي للعمارات السّكنية والتجارية والمؤسّسات فاقت بأضعافٍ كثيرة أعداد البيوت في القرى التي جرى نسفها خلال النكبة الأولى وبعدها، فقد بقي الكثير من القرى بعد النكبة الأولى سالمة، وكذلك البيوت والعمارات والمصانع في المدن الفلسطينية، مثل حيفا والرّملة واللد ويافا وصفد وطبريا، فقد بقي أكثرها سالماً، واستخدم لإسكان المستوطنين الجدد، ولمؤسّسات دولة، وذلك عندما استلموا وطناً صالحاً للاستعمال.
استغرق اكتشاف فظاعات النّكبة الأولى سنين قبل أن يُكشفَ جميعُه أو أكثرُه، أما مجازر اليوم فيجري معظمها في البثّ المباشر، ويراه العالم، ويمكن خلال ساعات أو أيام كشف الكثير من تفاصيلها.
في النّكبة الأولى كان العالم معادياً للعرب وللفلسطينيين الذين دُمغوا بأنّهم مجموعات من البدو وقطّاع الطُّرق، فقد شوههم الاستعمار البريطاني بدعايته السّامة بالإرهاب والهمجية، وصوّر المحتلّين الذين دعمهم وسلمهم البلاد بالضحايا الضُّعفاء المدافعين ببسالة عن أنفسهم في وجه البرابرة، وانتشرت مبالغات في أعداد الحشود العربية التي عرفت بالسّبعة جيوش التي شكلت جيش الإنقاذ، علماً أنّ الحركة الصهيونية حشدت أكثر من ستين ألف مقاتل مدرّبين على السّلاح، ومزوّدين بأحدث الأسلحة في حينه، تلقوها من الشّرق ومن الغّرب، اشتهرت من بينها صفقة السلاح التشيكي، الذي ما زال يذكره الفلسطينيون كسلاح فتاك، ولهذا نجد شوارع وميادين ومؤسّسات ومستوطنات تحمل تسميات لشخصيات من الغرب ومن الشّرق، مثل إطلاق اسم أول رئيس لدولة تشيكوسلوفاكيا على مستوطنة (كفار مساريك) القريبة من عكا والتي تأسَّست عام 1940.
وساد انطباع بأن هناك حشوداً من العرب «المتعطشين للدماء والاغتصاب والنّهب» والفتك باليهود الضعفاء الناجين من المحرقة، بينما ما يجري اليوم هو صورة معكوسة تماماً، فغالبية شعوب الأرض باتت ترى أن الفلسطيني هو الضَّحية، وأنّ الذي يمارس المجازر والتجويع والهدم والتشريد لمئات آلاف من البشر، هو الصهيوني الذي يتجاهل نداءات ونصائح بوقف الحرب والمجازر حتى من أقرب أصدقائه.
لم تكن في النكبة الأولى مقاومة فلسطينية منظّمة، بل كان هناك متطوّعون غير مُدرّبين، بعضهم اقتنى سلاحه من ماله الخاص، وكان هناك ما سُمّي جيش إنقاذ عربي، والحكاية معروفة.
في هذه الجولة يخوض القتال فلسطينيون مُنظّمون، وواضح أنّهم مدرّبون جيّداً وقد أثبتوا مهاراتٍ واستعداداً غير مسبوق للتّضحية، ومعظم سلاحهم البسيط من صنع أيديهم، صحيح أنّه لا يقارن من حيث العدد والضّخامة والحداثة بسلاح قوات الاحتلال، ولكنّه فعّال جداً، ويجبي أثماناً باهظة من قوات الاحتلال بالأفراد والعتاد.
في النكبة الأولى لم تكن هناك جبهة لبنانية، بل كان هناك طريق مفتوح للنزوح إلى لبنان، يُدفع الناسُ إليه دفعاً، بينما يشغل لبنان اليوم حيّزاً مهمّاً في إشغال قوات الاحتلال، والضّغط عليها، إضافة إلى إغلاق اليمنيين لباب المندب، الأمر الذي يشكّل ضغطاً اقتصادياً على دولة الاحتلال والتعامل التجاري معها، وفي الوقت ذاته يشكل دعماً معنوياً للمقاومة وللشّعب الفلسطيني، وخصوصاً أن ملايين اليمنيين يتظاهرون أسبوعياً دعماً لفلسطين.
في النكبة، لم تكن صحافة تنقل حقيقة ما يجري على الأرض، فالإعلام شبه معدوم، والموجود منه وخصوصاً البريطاني، منحازٌ لوريث المملكة البريطانية في الاحتلال، بينما يختلف إعلام اليوم جذرياً، ولم يعد نشر الخبر متعلّقاً في وسائل الإعلام الرّسمية ذات الأجندة المعروفة، -في هذا المجال يُسجّل لفضائية الجزيرة دورها المشرّف- وهذا ليس جديداً على الجزيرة.
وبعيداً عن الإعلام الرّسمي أو المموّل من جهات رسمية، صار الناس العاديون هم المصدر الأساسي للأخبار، ونقل معاناة الناس ونزوحهم وصمودهم وبطولاتهم، ونقل مشاهد القصف الهمجي، وصور الضحايا وعمليات الإنقاذ، وأحاديث الناجين والجرحى من موقع الحدث، والمقيمين في مراكز الإيواء. هذا النشاط الفردي انتقل إلى العالم وأثمر، وما زال ينتشرُ بقوّةٍ ويؤثّر في معاقل اعتبرت حتى الأمس القريب موالية ومؤيّدة لسردّية الاحتلال، مثل ساحات الجامعات الأمريكية، ومئات الملايين من مختلف القارات والدول والأمم التي أزيل الحجاب عن أبصارها وبصائرها، ما أدى إلى إدانات غير مسبوقة للاحتلال وعزلة انعكست في الاعتراف الدّولي بـأهلية الفلسطينيين في الحصول على دولتهم، وهذا ما عبّر عنه قرار الهيئة العامة للأمم المتّحدة بتأييد 143 دولة، ولم تعارضه سوى أمريكا وإسرائيل والأرجنتين، وبضع دويلات مجهولة على خارطة العالم، وهذا ما أخرج جلعاد إردان سفير دولة الاحتلال في الأمم المتحدة عن طوره، فتصرّف بحركات تهريجية، مثل تمزيق صفحات من ميثاق الأمم المتّحدة، وتفوّهات مهينة ضد من كانوا وما زالوا أصدقاء إسرائيل، ووصفهم ببقايا الهيمنة الهتلرية على أوروبا، وقلب الحقائق بصورة مقززة، بوصفه ما يجري في قطاع غزة بـ «حرب إبادة ضد الشعب اليهودي».
لم يكن الاحتلال في مثل هذا الانكشاف الفاضح لمشروعه القائم على العدوان والقتل والتشريد كما هو واضح اليوم، فقد فُهمت الصهيونية في مراحل سابقة على أنّها حركة تحرّر للشعب اليهودي، وحروبها دفاعية، وحظيت بدعم من الغرب والشّرق، وكان التعاطف معها جارفاً بعد المحرقة النازية إبّان الحرب العالمية الثانية، ونجحت في تسويق نفسها كحركة تحرر قومي للشعب اليهودي، وفي تصوير فلسطين كأرض بلا شعب، بينما تقدّم اليوم شكوى إلى محكمة العدل الدّولية ضد دولة الاحتلال واتهامه بارتكاب جرائم إبادة ضد البشرية، تقودها دولة جنوب أفريقيا التي كانت في الماضي القريب بنظامها السّابق، أكثر الأصدقاء حميمية لدولة الاحتلال.
هل في هذا الظلام الدامس ما يدعو إلى التفاؤل! هل نستطيع القول إن العالم قد تغيّر جذرياً في موقفه؟
بالتّأكيد أن التغيير جارٍ، ولكنّه ليس كافياً، وما زال الطريق طويلاً، وخصوصاً أنّ وزن الأمة العربية الحقيقي، الذي يشكّل ترجيح الكفّة لصالح الفلسطينيين، ما زال مغيّباً في أكثره عن فلسطين وعن الإقليم والعالم.