في منطق الاستشراق الاستعماري كما فنّده المفكّر المصري أنور عبد الملك، ومن بعده وبوحي منه المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد، تُحال شعوب الأقاليم المستعمَرة إلى ثقافة سرمدية تحكم مصيرها وتفرض حدوداً ضيقة على قدرتها على اللحاق بقطار الحداثة في ما يتعلق بمكتسباتها الحقوقية والسياسية، لاسيما حقوق الإنسان، وحقوق النساء بوجه خاص، والحرية والديمقراطية.
والحال أن في منطقتنا ثمة من يتبنّون هذا المنطق الاستشراقي بحجة نبذ التأثير الاستعماري، إذ يغلّفون موقفهم الرجعي المضاد للمكتسبات المذكورة بالحرص على «ثقافتنا» التي يعرّفونها إما بالانتساب القومي، أو بالانتساب الديني، أو بالإثنين معاً، ويحسبونها سرمدية على طريقة المنطق الاستشراقي التقليدي.
وبالطبع فإن المنطقين مبنيان على فرضية فاسدة من أساسها هي أن الثقافة لا تتغيّر مع الزمن وأن حقوق الإنسان والديمقراطية جزء من «الثقافة الغربية» وكأن بلدان الغرب قد أقرّتها منذ فجر التاريخ، بينما هي مكتسبات تحققت من خلال نضال شعبي طويل وشاق أخذ يتصاعد منذ ثلاثة قرون لا أكثر، بعد قرون عديدة كانت فيها أوروبا المسيحية متخلّفة عن الشرق الإسلامي في المجالات ذاتها، بما فيها حقوق النساء ونبذ فكرة تفويض الله للحاكم التي شكّلت الأساس الأيديولوجي للحكم المطلق. بيد أن الطرفين، الاستعماري والذي يدّعي مقاومة هذا الأخير ثقافياً، يلتقيان في استخدام منطقهما المشترك ذريعةً لسلوك ظالم، حيث يبرّر الرجعيون في منطقتنا تصدّيهم للمطالبة الديمقراطية بشتّى أوجهها بحرصهم المزعوم على تقاليدنا وشِيَمنا، بينما نرى حكام عواصم الاستعمار القديم والمجدّد يتذرّعون باحترام ثقافتنا لتبرير غضّ نظرهم عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلداننا، سعياً منهم وراء إبرام عقود تجارية مع حكامها. وربما استحقت الحكومة الفرنسية «السعفة الذهبية» في مجال النفاق الاستشراقي إذ تجمع بين التعدّي التعسّفي على بعض التقاليد الإسلامية على أرضها باسم الحداثة وبين سكوتها عن بعض أبشع انتهاكات حقوق الإنسان في منطقتنا حسب مصلحتها التجارية، وهو تقليد تفوّق فيه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، عندما ركض يعانق عبد الفتاح السيسي إثر انقلابه من أجل بيعه طائرات «رافال» باهظة الثمن، ولم يقصّر خليفته إيمانويل ماكرون في السير على النهج ذاته مثلما رأينا مؤخراً.
أما الحد الأقصى من الازدراء الاستشراقي بشعوبنا فتبلغه تلك العواصم الغربية حين تستمر على هذا المنوال عينه إزاء بلدان شهدت في منطقتنا هبّة شعبية عارمة من أجل الديمقراطية كما هي حال تونس والسودان. فإزاء تونس، نرى الاتحاد الأوروبي، بلسان ممثله السامي الإسباني جوزيب بوريل، وبعد أن شدّد عقب انقلاب قيس سعيّد على ضرورة «الحفاظ على ترسيخ الديمقراطية واحترام سيادة القانون والدستور والإطار التشريعي» داعياً إلى «استعادة الاستقرار المؤسساتي في أقرب وقت ممكن، ولاسيما استئناف النشاط البرلماني واحترام الحقوق الأساسية» (بيان بتاريخ 27/7/2021) نرى هذا الممثّل نفسه يصرّح إثر الخطاب الذي ألقاه سعيّد في الثالث عشر من الشهر الجاري، والذي ألغى به نهائياً البرلمان التونسي المنتخب في عام 2019، معلناً أنه سوف يُشرف بمفرده على صياغة دستور جديد للبلاد بدون أي هيئة منتخَبة، نرى ممثّل الاتحاد الأوروبي إذاً يعلن أن تصريحات سعيّد «هي خطوة مهمة نحو استعادة الاستقرار المؤسساتي وتوازنه» (بيان بتاريخ 16/12/2021).
أما الحد الأقصى من الازدراء الاستشراقي بشعوبنا فتبلغه تلك العواصم الغربية حين تستمر على هذا المنوال عينه إزاء بلدان شهدت في منطقتنا هبّة شعبية عارمة من أجل الديمقراطية كما هي حال تونس والسودان
فقد نسي الممثّل السامي مطالبته باحترام الدستور واستئناف النشاط البرلماني في أقرب وقت ليحيّي شطْح سعيّد في اتجاه الحكم الفردي المطلق، وذلك إثر خطاب سلطوي احتجّت عليه حتى الأطراف السياسية والنقابية التي كانت بالأمس القريب قد رحّبت بالانقلاب الرئاسي.
أما في السودان، فنرى الممثّل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، الألماني فولكِر بيرتِس، يتدخّل بشكل سافر إلى جانب رئيس الوزراء المخلوع ومن ثم المُعاد عبدالله حمدوك، ويبارك الاتفاق الذي أبرمه هذا الأخير مع الحكم العسكري الانقلابي قبل شهر والذي كرّس أهم الإجراءات الانقلابية، لاسيما الإطاحة بالمجلسين السيادي والوزاري الناجمين عن الاتفاق السياسي والدستوري المُقَرّ في صيف 2019، بالرغم من الرفض الشعبي العارم ورفض معظم القوى السياسية والأطراف الديمقراطية في البلاد لاتفاق حمدوك والعسكر، الذي تحوّل من خلاله رئيس الوزراء السابق من بطل إلى خائن في نظر الحركة الشعبية. وقد تلعثم الممثّل الخاص بيرتِس في إطلالته على مجلس الأمن للأمم المتحدة في العاشر من الشهر الجاري وهو يحاول تبرير مراهنته الفاشلة على حمدوك وعلى طيب خاطر العسكر.
فقال بيرتِس: «رحّبت بحذر باتفاق 21 نوفمبر السياسي بين رئيس الوزراء حمدوك والفريق أول البرهان… والاتفاق أبعد ما يكون عن الكمال، لكن قد يساعد على تجنب إراقة المزيد من الدماء ويوفّر خطوة نحو حوار شامل وعودة للنظام الدستوري» (إحاطة لمجلس الأمن الدولي، 10/12/2021). ثم استدرك قائلاً: «يواجه الاتفاق معارضة ملحوظة من شريحة كبيرة من أصحاب المصلحة السودانيين، بما في ذلك الأحزاب والجمعيات في قوى الحرية والتغيير، ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والمجموعات النسائية» وأضاف الإقرار التالي: «لم يؤد اتفاق 21 نوفمبر إلى إعادة بناء الثقة المفقودة». لكن ذلك لم يردعه عن المضي بالمراهنة على الاتفاق عينه، معلناً أن «القرارات المزمعة بشأن تشكيل الحكومة والتعيينات رفيعة المستوى وإنشاء المؤسسات الانتقالية (ستختبر) إرادة أصحاب المصلحة وقدرتهم على السعي إلى طريقة مشتركة للخروج من الأزمة» وكأن ثمة أي التباس في حقيقة نوايا الزمرة العسكرية التي يتزعمها البرهان ومحمد حمدان دقلو، المعروف بلقب حميدتي.
يا تُرى، هل كان السيد بوريل سيقبل بقيام رأس الدولة بحلّ البرلمان وإلغاء الدستور وإعلان نيّته صياغة دستور جديد بلا مشاركة أي هيئة منتخَبة، لو حدث ذلك في إحدى الدول الأوروبية، ولاسيما بلده إسبانيا (حيث الملك هو رأس الدولة)؟ وهل كان السيد بيرتِس سيقبل بقيام العسكر بالإطاحة بمؤسسات الدولة وإعلانهم نيّتهم في إعادة تركيبها بمشاركة المتعاونين معهم، لو حدث ذلك في إحدى الدول الأوروبية، ولاسيما بلده ألمانيا؟ طبعاً لا، وهذا يعني بالتالي وبجلاء كامل أن الرجلين ومَن يمثّلون يكيلان بمكيالين في أمور الديمقراطية على طريقة الاستشراق الاستعماري المعهودة. فلا تعجّبنّ أيها السادة من انعدام مصداقية من تمثّلون في نظر شعوب منطقتنا!
كاتب وأكاديمي من لبنان
لا تلم الغير على عدم مساعدة العرب في ترسيخ قيم الديمقراطية مادام الشعب لا يعي قيمتها وفائدته له.
ارى من الافضل لمنطقتنا و كل الشعوب المنكوبة بحكم الطغم التركيز على حقوق الإنسان وكرامة الإنسان واحترام الحريات. و على الاقل احترام الدستور و خاصة البند المتعلق باستقلال السلطات و المساواة بين المواطنين. والتركيز على التعليم و الصحة العامة
الديمقراطية ستأتي حتما عندما يكون الإنسان منتجا مدركا لقيمته و حقوقه
لقد خرجت الدول الاستعمارية لتقليل المصاريف وزرعت عملاء يحكمون شعوبنا — يضربون وينهبون الثروات ويتقاسموا — ولذل تجد اي حاكم وخاصة في دولنا العربيه يستحوذ علي كل ثروات الدوله ويصرف كما يشاء يبني قصور ويشتري طائرات ووووو ولكن الشعب ياكل علي قفاه ومفيش حاجه اسمها حريه بل يتعملون مع الشعب وكانه عبيد– لذلك قامت ثورات وستقوم ثورات الي ان يذهب العملاء
تحية للجميع بالتاكيد تاثير ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليدة على الديمقراطية وممارستها ونتائجها كبير جدا والعراق ولبنان مثالا على ذلك رغم الفوارق الصغيرة فالشعب العراقي لانه متمسك بعشائريته وطائفيته وعنصريته القومية انتخب من لا يهمهم مصلحته لعدة مرات وفعلها كذلك مؤخرا فلا تتوقع من شيعي ان ينتخب سنيا والعكس صحيح والكلام هنا على الاغلبية والامر ينطبق على الاكراد فسوف لن ينتخبون غير كردي من مناطقهم وحتى ان كان منافسه سيخلق لهم جنة وهكذا التركمان وباقي الاقليات وفي الاردن لا يختلف الامر رغم قدم الانتخابات في البلد فشيوخ العشيرة ورجال الدين هم الفائزون
كانت ألمانيا أسوأ بكثير من أحوالنا الدكتاتورية الإستبدادية وكذلك اليابان التي لها تقاليد شرقية تفوق تقاليدنا وعاداتنا ومع ذلك وفي الحالتين هناك أنظمة ديمقراطية ومتطورة بسبب هذه الديمقراطية التي جاءت إليها من الخارج!
شكرًا أخي جلبير الأشقر. ازدواجية الغرب الأخلاقية أصبحت واضحة للقاصي والداني. هي نقطة ذات أهمية حيث أن هذه الدول أصبحت تبحث عن المال بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة مما جعلها تخسر أحد الأسس التي بنت عليها حضارتها. لكن هذا لايكفي لنا طبعًا وعلينا أن ننهض بأنفسنا.