ربما يلوح مدّ الجسور مجددا بين المغرب والجزائر عملية معقدة وشاقة، لكن هل يمكن أن ينطبق الأمر نفسه على المغرب وتونس؟ وهل من الوارد في تلك الحالة أن يتكرر، وربما في وقت وجيز، مشهد شبيه إلى حد ما بذلك الذي حصل في الأيام التي كانت فيها علاقاتهما مقطوعة، على خلفية وقوف تونس مع استقلال موريتانيا، وأشار له السياسي المخضرم عبد السلام القلال في كتابه «الحلم والمنعرج الخطأ» حين تحدث عن تفاصيل .زيارة وفد تونسي في تلك الفترة إلى العاصمة المغربية، بعد كارثة الفيضانات التي أصابتها ليتقدم إلى ملك المغرب بخالص عبارات المواساة قبل أن يقول له رئيس الوفد: «أخوكم فخامة الرئيس يدعوكم إلى وضع حد للجفاء، الذي اتسمت به العلاقات المغربية التونسية وإرجاع هذه العلاقة لما كانت عليه حتى نواصل التعاون من أجل بناء المغرب العربي الكبير»، فيرد العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني فورا ومن دون تردد: «سلم على والدي وقل له إني على استعداد لذلك، وقد طويت الصفحة وإني في انتظار سفيره في الرباط وسأفعل بالمثل»؟ أم أن تلك الأيام الخوالي مضت، ولم يعد كافيا اليوم لذوبان الجليد وتطويق أي نزاع، أو خلاف بين بلدين عربيين، حتى لو كان بسيطا ومحدودا، تعبير قائد أو زعيم للآخر عن أي مشاعر أو أحاسيس ودية أو أخوية نحوه أو نحو بلاده؟
المؤكد أن عدة عوامل باتت تتحكم في الأفعال وفي ردود الأفعال كذلك. كما أن الأوضاع الداخلية والإقليمية وحتى الدولية، والحسابات والتوازنات والخيارات السياسية صارت تفرض أحيانا إكراهات قد تزيد من حدة التعارض والاختلاف بشكل أكبر مما كان عليه الحال في السابق. والثابت وسط ذلك كله، أن الوضع الحالي للعلاقات بين العاصمتين التونسية والمغربية لا يسر التونسيين ولا المغاربة على السواء، لأنه يبدو شاذا وغريبا، بل حتى غير مسبوق في تاريخهما المعاصر. فمع أنها لم تُقطع تماما مثلما حصل خلال حقبة قصيرة نسبيا في الستينيات، إلا أنها فقدت ومنذ عام ونصف العام نسقها الاعتيادي والطبيعي، إذ لم يعد السفيران المعتمدان في البلدين إلى الآن إلى بعثتيهما الدبلوماسيتين في أعقاب استدعائهما للتشاور في أغسطس من العام قبل الماضي، كما أن اللقاءات الثنائية الرسمية بين المسؤولين التونسيين والمغاربة تكاد تكون منعدمة بالكامل.
التونسيون وضعوا الجزء الأكبر من بيضهم في السلة الجزائرية، وبات هامش تحركهم محدودا، وأي محاولة للخروج عن الخط الذي يتعارض مع سياسات جارتهم الغربية غير ممكنة
ومن الواضح أنه مع مرور الوقت، فإن تلك الحالة باتت تطرح نقطة استفهام كبرى حول ما إذا كان بقاء الباب مواربا بين الجانبين سيتيح لهما، في غضون الأسابيع وربما الشهور القليلة المقبلة فتحه مرة أخرى من جديد، أم أنه سيجعلهما يمضيان قدما نحو غلقه بالكامل؟ وليس معروفا إن كانت المساعي أو المحاولات التي بذلت أو تبذل لتقريب وجهات النظر بينهما تسير الآن في الاتجاه الصحيح، أم أنها تواجه بعض الصعوبات والعراقيل التي تحول دون تحقيق النتيجة المطلوبة؟ ولكن اللافت أنه لم يصدر عن الجانب المغربي أي تفاعل مع أقوى إشارة صدرت عن تونس في أكتوبر الماضي، وجاءت في سياق حديث أجرته صحيفة «الشروق» شبه الرسمية مع السفير نبيل عمار، الذي عينه الرئيس قيس سعيد قبلها بفترة قصيرة، على رأس الدبلوماسية التونسية. لقد سألت تلك الصحيفة عمار في آخر حديثها معه السؤال المباشر التالي: بين تونس والمغرب الشقيق لا العلاقات مقطوعة ولا هي عادية… فمتى تعود المياه إلى مجاريها؟ وكان رده هو أن أجاب وبشكل مجتزأ ومتقطع بأنه «ليست هناك قطيعة مع المغرب الشقيق.. وليست هناك عداوة.. بالوقت سيعود السفيران إلى سفارتيهما… كلانا، أطمئن الجميع، لا نلتفت إلى الوراء.. تونس لم تغير موقفها منذ عشرات السنين.. المهم ليس هناك قطيعة بيننا وبين المغرب». غير أنه وبعد أربعة أشهر من ذلك التصريح لم يظهر في الأفق أي جديد، فهل كان الحد الأدنى الذي وضعه المغاربة لطي صفحة ما اعتبروه في ذلك الوقت «عملا خطيرا وغير مسبوق يجرح بشدة مشاعر الشعب المغربي»، وهو استقبال الرئيس قيس سعيد لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي بمناسبة احتضان العاصمة التونسية لقمة «تيكاد» الافريقية اليابانية الصيف قبل الماضي أكبر بكثير من تلك الكلمات المبهمة والغامضة التي قالها عمار؟ وهل كانوا ينتظرون عبارات واضحة ودقيقة تشير مثلا إلى أن تونس لا تعترف بالبوليساريو، وأنها لم تغير موقفها من قضية الصحراء، الذي يقوم على الاحتكام إلى الشرعية الدولية، وحل النزاع بالطرق السلمية، وفقا لقرارات مجلس الأمن؟
من المؤكد أن حسابات عديدة حكمت ذلك التصريح، فالتوقيت كان محسوبا بدقة والدبلوماسي التونسي كان واعيا أيضا بأن أي تأويل محتمل لما قاله على أنه سعي أو محاولة من جانب بلاده لإرضاء الرباط، كان سيعني على الفور إثارة غضب الجارة الجزائر، وهو ما يتحسب المسؤولون التونسيون جيدا من وقوعه، لكن هل يعني ذلك أنه بات على التونسيين اليوم أن يختاروا بين أمرين لا ثالث لهما، وهو إما التضحية بعلاقاتهم مع الجزائر، وإما التفريط في علاقتهم مع المغرب؟ إن الخيارات والتوجهات التي انخرطت فيها بلادهم منذ ما يقارب الثلاث سنوات تجعل الأمر بالنسبة لهم على درجة بالغة من الصعوبة والتعقيد. فقد وضعوا الجزء الأكبر من بيضهم في السلة الجزائرية، وبات هامش تحركهم بالتالي داخل الإقليم ضيقا ومحدودا، وصارت أي محاولة من جانبهم للخروج عن الخط الذي يتعارض مع سياسات جارتهم الغربية غير ممكنة، بل حتى شبه مستحيلة. ولا شك في أن المغاربة يدركون ذلك جيدا، ويعرفون أنه لن يكون بمقدور الدولة التي ربطتهم بها علاقات وثيقة قبل إعلان استقلال البلدين في سنة واحدة، وبعده وبحكم عدة عوامل أن تقوم الآن على الأقل، بانعطافة حادة في سياستها الخارجية، وأن تتجاهل التبعات التي قد تترتب عن ذلك. وهنا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل يمكن لهم أن يتوصلوا إلى حل وسط، أي إلى صيغة يقبل بها المغرب ولا تثير في الوقت نفسه اعتراض أو قلق الجزائريين؟ إن اعترافا تونسيا بان استقبال زعيم البوليساريو كان خطأ دبلوماسيا فادحا، وتقديم اعتذار عنه للرباط يبدو في نظر الرئيس سعيد غير وارد. غير أن خروج تونس عن موقف الحياد في نزاع الصحراء يبدو بدوره الان غير ممكن، خصوصا مع التحولات المهمة التي يعرفها الملف بعد الاعترافات الدولية والإقليمية بمغربية الصحراء. ولعل هناك من سيقول بعدها إن كان الإسبان والألمان والفرنسيون قد جاؤوا إلى المغرب وقدموا له وبأشكال مختلفة نوعا من الاعتذار عن بعض المواقف السابقة التي أخذوها في حقه فما الذي يمكن أن يجعل الرباط إذن لا تتوقع أو تترقب خطوة مماثلة من جانب التونسيين؟ لكن إن كان المغرب قد مد يده مرات للجزائر فما المانع من أن يمدها الآن ولو لمرة واحدة إلى تونس؟
كاتب وصحافي من تونس