أثناء محنة المرض غبت عن العالم ولم أعد أنظر حولي. لم أكن أطمع في النجاة من العمليات الجراحية بقدر ما كنت أطمع في الخلاص من الدنيا. ليس للألم ولا لما مررت به قبلها، لكن من الطبيعي جدا للبشر حين يتقدم بهم العمر أن يروا أن الرحيل أفضل.
أنا في الخامسة والسبعين وهو عمر عادي في بلاد مثل أوروبا وأمريكا واليابان مثلا، ولا يعد تقدما كبيرا في السن، لكنه في بلادنا العربية عمر طويل، لأن ما رأيناه فيها يجعل العام عشرة أعوام، فما بالك بمن هم مثلي شاهدوا مصر أم الدنيا في طفولتهم، فيها كل جاليات العالم وشوارع نظيفة وحدائق وتعليم رائع، فلم يوجد تعليم خاص إلا نادرا، كما كان العلاج مجانيا والمستشفيات نظيفة. لم يكن قد ظهر العلاج الخاص، الذي يشكو الجميع الآن من ارتفاع أسعاره والإهمال فيه أيضا، بينما يتزاحم الناس على العلاج المجاني للدولة وهذا طبيعي فهو حقهم، لكن الزحام يأتي من الزيادة الرهيبة في السكان، وعدم وجود مستشفيات كافية ولا بناء مستشفيات كافية، تماما كعدم وجود مدارس كافية ولا بناء لمدارس تكفي. كيف نفضت الدولة يدها، ذلك حديث تحدثنا فيه كثيرا ولا فائدة.
كنت في طريقي إلى غرفة العمليات الجراحية التي تكررت أكثر من مرة في شهر ونصف الشهر أخاطب الله قائلا، إذا كان لا بد من الرحيل فليكن رأفة منك وأنا في التخدير لا أشعر بشيء. أخرج من العملية الجراحية ناجيا يقول لي الأطباء أنت قوي، فأبتسم وأقول في نفسي أنا لا أعرف من أنا ولا أين أنا. مضت أربعة أشهر الآن حاولت فيها أن أعود إلى ما حولي، ولم يكن أفضل من العودة بالمقالات الضافية التي أكتبها هنا، أو القصيرة في جريدة «الأخبار» المصرية، لكنني رغم ذلك ظللت غريبا عما حولي. أكتب المقال وأرسله ثم أنساه وأفكر في كتابة مقال آخر حتى لا يفوتني موعد النشر، ثم أتذكر أني كتبته وأرسلته. اخترت عمدا حين أكتب عن كتب أن تكون كتبا فكرية، ليست روايات ولا قصصا، حتى تثير في عقلي الأسئلة وتعيدني إلى العالم. قراءة القصص والروايات جميلة، لكنها في حالتي شرود فوق شرود، فسأمشي مع شخصياتها حتى أخرج منها وأنساها ولا أعرف أين تركت الرواية. لا أحد يقول إن هذه علامات الزهايمر فها أنذا أكتب عنها! لا أحد يستطيع أن يأخذني في طريقه، فأنا لا أرى أمامي ولا في خيالي طرقا. لكن حدث أني فزت بجائزة النيل المصرية منذ أيام. جائزة النيل هي أرفع الجوائز المصرية.
كانت آخر جائزة مصرية حصلت عليها هي جائزة الدولة التقديرية عام 2007. أيّ مضت خمسة عشر عاما انتجت فيها قرابة العشرين كتابا غير العشرين السابقة. لم تأتني جائزة النيل خلال الخمس عشرة سنة ولم أهتم. تم ترشيحي إليها منذ سنوات من أتيلييه الإسكندرية، حين كان يرأسه المرحوم الدكتور الشاعر محمد رفيق، لكنني لم أحصل عليها، ولم أكتب قط أني مرشح لها، قبلها أو بعدها. هذه المرة وجدت نفسي اهتم لكنه اهتمام قد يضحك. حين حصلت على الجائزة التقديرية وقبلها بثلاث سنوات على جائزة التفوق، كنت في مطعم جريدة «الأهرام» أتناول الغداء. كانت صديقة العمر الجميلة النبيلة سهير فهمي الكاتبة والمترجة في جريدة «الاهرام إبدو» الفرنسية هي التي دعتني إلى الغداء في المرتين. تفاءلت بالجلوس معها هي التي ترجمت لي من قبل إلى الفرنسية عام 2000 روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية».
كان فوز المخرج داوود عبد السيد معي بجائزة النيل في الفنون أجمل أسباب الفرح، بل إن فوزنا معا جعل الاحتفاء بالجائزة أكبر من كل عام، وإن ظل الانتقاد للجوائز الأخرى مثل جائزتي التفوق والتقديرية لأنهما تجاوزتا أسماء مهمة تستحق.
قلت فلأذهب إلى «الأهرام» تفاؤلا بالقديم، لكن سهير فهمي مريضة وجعلني ذلك لا أذهب رغم سهولة ذلك، فأصدقائي كثيرون طبعا هناك، لكن كيف أذهب وسهير فهمي صديقة عمري مريضة، حتى لو أتى إليّ الخبر الجميل؟ فليكن الخروج من البيت وانتظار الخبر في مكان آخر، خرجت مع زوجتي إلى محل جروبي في شارع عدلي، ودعوت الصحافي الشاب مصطفي طاهر الذي يعمل في «الأهرام» تبركا بـ»الأهرام» ومعه زوجته الشاعرة والكاتبة الجميلة زيزي شوشة، ودعوت الصديقة الروائية رباب كساب التي تمتعني دائما رواياتها، وتمتعنا أنا وزوجتي جلساتها معنا. وصلت مع زوجتي قبلهما فوجدت المكان محجوزا لتصوير مشاهد سينمائية للفنان خالد سرحان ومعه الفنان محمد جمعة وزحام شديد للتصوير. كانت رؤية خالد سرحان مثيرة لكثير من الذكريات الحلوة مع والده المرحوم الدكتور سمير سرحان الذي كان رئيسا لهيئة الكتاب، وكانت بيننا محبة عظيمة وصفتها في كتابي «الأيام الحلوة فقط» رآني خالد سرحان فتقدم يصافحني وكادت دموعي تنهمر مع ذكريات والده، ثم أقبل عليّ الفنان محمد جمعة فضحكت وقلت له مقولته التي صارت أيقونة وقالها في أحد المسلسلات «كله رايح» انصرفا هما إلى التصوير وجلسنا نحن ننتظر. ساعتان أو أكثر انشغلت فيهما بحديث لا ينقطع مع من هم معي. قلت فلتأتي النتيجة كما تأتي، المهم نستمر في الحديث والضحك وننسي الأمر، لكن جاءت النتيجة إيجابية. ضحكنا وظللنا نتحدث ونشرب القهوة والشاي حتى اقترب المساء وعدت وزوجتي. طبعا لم تنقطع التليفونات طوال الجلسة، وكدنا نفسد بأصواتنا العالية التصوير السينمائي، وفي النهاية لأنهم عرفوا بالأمر قالوا لي تحدث كما تشاء، حتى اليوم وأنا أكتب بعد خمسة أيام من الحصول على الجائزة لا تنقطع التليفونات، وطلبات الأحاديث الصحافية والتلفزيونية، اخترت منها حديثا واحدا في قناة «تن» مع المذيعة قصواء الخلالي، التي ومنذ شهور تطلب مني الحضور معها وأرجئه لتعبي.
هذه المرة ذهبت رغم معرفتي بأن الخروج لا يزال يرهقني، لكن قلت فلتكن المرة الثانية، واستريح شهرا أو عدة أسابيع. الحفاوة التي انطلقت في فضاءات الميديا من الأصدقاء والقراء كانت كما قلت في كل أحاديثي هي أفضل جائزة. ورغم أن الكثيرين أجمعوا على تأخر الجائزة عني، إلا أني أؤمن بأن الجوائز أرزاق والأمر بيد الله.
كان فوز المخرج داوود عبد السيد معي بجائزة النيل في الفنون أجمل أسباب الفرح، بل إن فوزنا معا جعل الاحتفاء بالجائزة أكبر من كل عام، وإن ظل الانتقاد للجوائز الأخرى مثل جائزتي التفوق والتقديرية لأنهما تجاوزتا أسماء مهمة تستحق. لكن طبعا في مثل هذه الأحوال فمن الأفضل للمظلوم الإهمال والقول إن أعداد المرشحين دائما أكبر من عدد الجوائز، وإن الفرص مقبلة في الأعوام التالية، أو إنها أرزاق ويريح الكاتب نفسه.
لقد كان ترشيحي للجائزة من أتيليه الإسكندرية أيضا هذه المرة، حيث يرأسه الآن الفنان مصطفى عبد المعطي أعطاه الله الصحة، وكذلك كان الترشيح من الجمعية المصرية لدراسة المأثورات الشعبية في القاهرة، التي يرأسها العالم أحمد مرسي شفاه الله.
في النهاية أود أن أقول إن أجمل ما جرى هو أني تذكرت الليالي التي أنفقت فيها عمري في الكتابة، وصحبتي مع أصدقائي من شخصيات الروايات الذين صاروا هم حياتي الحقيقية، لا أنساهم وأنسى كل شيء حولي، وحين حصلت على الجائزة تذكرتهم جميعا وما زلت، ووجدت نفسي من جديد بعيدا عما حولي رغم فرحة الميديا الغامرة. هل تراني أخطأت أني استغنيت بهم في حياتي عن كل ما حولي؟ لا أظن. هم دائما زادي وفرحتي، لكني طبعا لن أقابلهم لأشكرهم واحدا بعد الآخر. تظل الحياة لا معنى لها للأديب وهو لا يري شخصياته تتحرك حقيقة حوله، لكن ما أجمله من وهم أغناني عن الحياة كلها. كيف يصبح الوهم حقيقة، هو العودة الحقيقية للحياة، ولن يتحقق للأسف.
روائي مصري
شكرًا جزيلًا أخي إبراهيم عبد المجيد وألف مبروك على هذه الجائزة والتقدير الذي تستحقه بكل تأكيد. أنا كما قلت ذلك من قبل لا أقرأ الأدب ولا أستطيع وربما يعود لطبيعة تفكيري العلمية, لكن كم أحب مقالاتك وهذا الإسلوب الجميل في الحديث عن الواقع. لديك هذه الخبرة الطويلة ولكن أيضًا الثاقبة في النظر إلى مجتمعاتنا وبلداننا وكيف بدأت بحال كان فيه أمل كبير في نهضة معاصرة ثم توالت واستمرت كوابيس السقوط في المآسي ومازالت, ويعلم الله كيف الخروج منها. وهذه المقالات تساعدني وتساندي في تعميق نظرتي حيث أني لست أو لم أعد من جيل الشباب. أتمنى طبعًا أن تكون أفكارك وأرائك ورؤيتك لهذا الواقع عونًا يساهم في إنارة طريقنا للخروج من هذا المأزق الحضاري وهذا الكابوس الذي يخيم فوق رؤوسنا دون بارقة أمل في ذلك, لكن الأمل بالله لاينقطع.
أمة لا تحتمل تعليقا ساخرا، ودولة تهتز لبوست على الفيسبوك لا تنتظر منها خيرا! مبروك لعلي بابا والأربعين شريفا!