هل كان على المهاجر أن لا يعود إلى وطنه؟

حجم الخط
0

■ رواية أزهر جرجيس تحكي، هي أيضا، عن الهجرة إلى أوروبا. هذا ليس فنا جديدا في الرواية، فقد افتتحه الطيب صالح في عمله المؤسس «موسم الهجرة إلى الشمال». الروايات الثلاث، التي وقعت بين يديّ في هذه الأسابيع الأخيرة، وتناولتُها بالكتابة في هذه الصفحة، تقوم على الموضوع ذاته.
أولاها كانت رواية حمدي أبو جليّل «الصاد شين» المكتوبة كليا بالعامية المصرية، ثانيتها رواية سليم اللوزي، التي لم يتمكن فيها قاصدو اليونان من الوصول إليها، إذ تحطم القارب الذي كان يقلهم وأغرق البحر معظمهم.
«النوم في حقل الكرز» لأزهر جرجيس ترجع في زمن الهجرة إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين فرّ سعيد ينسين، بطل الرواية، إلى أوسلو هاربا من القمع الوحشي في بلده العراق. هي هجرة مبكرة إذن، مقارنة مع هجرة ضحايا المراكب المعرضة دائما للغرق. آنذاك كان هرب البشر، أو تهريبهم، يجري برا، بالشاحنة التي تخترق بهم حدودا كثيرة قبل أن توصلهم إلى ألمانيا. كانت الرحلة سهلة آنذاك، أو محتملة. سعيد ينسين وجد من يساعده في البلدان التي كان يحطّ فيها تباعا، بدءا من الأردن. وهو، بعد أن وصل إلى أوروبا، لقي مساعدة، أو مساعدات، أوصلته إلى محل هجرته الأخيرة في النرويج. ثم لم يلبث أن صار مواطنا هناك، شأنه شأن أهل البلد الأصليين، الذين صاروا زملاء له في العمل وجيرانا له في السكن. لقد أتيح له ما هو متاح لأي نرويجي: أن يختار من يروق له من الذين حوله ويتفادى، بل يواجه، من لا يطيق مجالسته. كما أنه، لتُستكمَل له عناصر الشعور بالمواطنة، ارتبط بعلاقة غرامية مع المعلمة، التي أُوكلت إليها مهمة تدريب الوافدين. وهذه كانت علاقة مكتملة الشروط العاطفية، لا يباعد بين طرفيها ما قد يرد إلى الذهن من نيّة أحدهما الاستفادة مما يختلف به كل منهما عن الآخر. وما يزيد من حقيقية المشاعر التي جمعت بينهما، هي النهاية المأساوية التي شاءها الروائي لافتراقهما: رفضت المدرّبة «تونا» عرض الزواج الذي قدمه سعيد لها، وهي أعقبت ذلك بقطعها العلاقة والتواري عنه في منزل أمّها البعيد، لكن ذلك لم يكن هجرانا بل وفاء له وخوفا عليه بعدما شخّص الأطباء أن لا شفاء لها من المرض القاتل الذي أصابها فجأة.

مشوّقة قراءة «النوم في حقل الكرز» إذ هي مشبعة بالتفاصيل، سواء تلك المتعلقة بالرحلة إلى أوروبا، أو المتعلقة بأوروبا نفسها، كما تلك التي تعني العراق، في ما قبل الهجرة وفي ما بعدها.

لكن العلاقة، رغم مأساويتها، عبرت ولم تترك أثرا. كانت أقرب إلى محطة من محطات الرواية، أو فاصلا مستقلا منها. تونا هي الحبيبة التي لن يتعدى وجودها ذلك الجزء من الرواية، الواقع تقريبا في وسطها، أي في المرحلة التي تَعيّنَ بها اكتمال التأقلم مع الحياة الأوروبية، وبدء الاستعداد للعودة إلى العراق.
تونا هي فاصل من حياة الرجل العراقي هناك، أما صياغة العلاقة بها في بداية مشوّقة وخاتمة مأساوية، فيرجع إلى الحد الأخير الذي يرغب روائيّنا على الدوام في إتمامه، من ذلك أيضا وصفه للعراق الحالي الذي عاد إليه بعد سنوات الغياب الكثيرة تلك. في اليومين الأولين من وصوله إلى بغداد تعرّض إلى كل ما نقرأه في الصحف وفي نشرات الأخبار، عن أشكال العنف الجاري هناك وألوانه. عرف منذ أن التقى أول الأشخاص هناك أن مزوري الأوراق الثبوتية كثيرون، وهو نُصح بأن يحصل على هويتين مزورتين واحدة باسم علي، والأخرى باسم عمر. عند الحاجز الأول عرف أي الهويتين يُظهر، لكنه أخطأ عند الحاجز الثاني فاعتقل وعذِّب حتى الغيبوبة، وبعد الإفراج عنه راح ينتظر عبير، التي كانت هي التي أوعزت إليه بالمجيء من النرويج لأن مقبرة جماعية ستفتح في العراق، وربما يكون والده بين مًن دفنوا فيها.
لا أعرف إن كان الكيس الذي يحتوي عظام أبيه قد بقي معه، حين أطلّت عبير إلى حيث كان واقفا ينتظرها، وللحظة دوى الانفجار الذي أطاح بكل من كانوا مزدحمين هناك وبينهم عبير، وهو نفسه، بحسب ما يستخلص قارئ الرواية.
كل ذلك الخراب عاشه سعيد في يومي وصوله الأولين. كل تفصيل يدل على ما آلت إليه حال العراق، شاهدَه سعيد وعاشه، ولكي يكون ذلك الخراب مضاعفا وضع الكاتب مُشاهدَه أمام مرآة مقابلة عاكسة، تبدو بغداد فيها أقرب إلى جنة عدن. هكذا قيل لسعيد عن بلده، وهو بعد هناك في أوروبا، والرواية وصفت وصوله إلى العراق بناء على تلك الأكذوبة، ليعود الروائي، بعد اكتمال الوصف المتوهّم، إلى وصف بغداد كما هي فعلا وواقعا.
مشوّقة قراءة «النوم في حقل الكرز» إذ هي مشبعة بالتفاصيل، سواء تلك المتعلقة بالرحلة إلى أوروبا، أو المتعلقة بأوروبا نفسها، كما تلك التي تعني العراق، في ما قبل الهجرة وفي ما بعدها. ولنضف إلى ذلك الثراء الوصفي والسردي تلك «المقدمة» التي يعلن فيها الكاتب أنه نقل الرواية، أو ترجمها، عن راوٍ عن راوٍ راحل سبق لله إن كان مهاجرا في زمن أسبق. ذلك يضيف إلى المطارح التي تعيدنا بها الرواية إلى «موسم الهجرة إلى الشمال» حيث أحال الكاتب سيرته إلى «مصطفى سعيد»، إحدى الشخصيات الأشهر في الرواية العربية.
*رواية أزهر جرجيس «النوم في حقل الكرز» صدرت عن دار الرافدين في 222 صفحة سنة 2019.

٭ روائي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية