عن عمر يناهز الثالثة والتسعين غيّب الموت الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد (1927- 2020) في 27 تموز/ يوليو الماضي، وكان قد ولد في غزة ودرس في مدارسها، وفي عام 1947 التحق بوظائف إعلامية تابعة لإذاعات وصحف فلسطينية، قبل أن يصبح مشرفا على القسم الخاص بفلسطين في إذاعة صوت العرب من القاهرة. وعندما ظهرت منظمة التحرير التحق بإعلامها الرسمي في غزة، وظل على رأس عمله حتى عام 1967، حين وقع قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي في يونيو/ حزيران. وقد أحاطه الاحتلال بالكثير من الضغوط، ما دعاه لمغادرة القطاع إلى القاهرة التي تابع فيها عمله السابق إلى أن بلغ سن التقاعد.
والمعروف أن لهارون هاشم رشيد الكثير من الدواوين الشعرية، التي زاد عددها على العشرين، وقد جُمع عدد منها كبير في كتاب صدر بعنوان الأعمال الشعرية الكاملة لهارون هاشم رشيد. ويعرف القراء أيضا أن لهارون هاشم رشيد قصائد شقت طريقها إلى حناجر المطربين، أمثال فيروز، وفايدة كامل، وكارم محمود، ومنها أغنية «جسر العودة» و«سنرجع يوما إلى حينا» وغيرها.. وقد تعود شهرته شاعرا لهذه الأغاني أكثر مما تعزى لما كتب عن شعره من دراسات نقدية وأطاريح.
على أن الذي لا يعرف عنه أنه بالإضافة لشعره وكتاباته البحثية عن الشعر والأدب، ومسرحياته، خاض تجربة كتابة الرواية، فأصدر في عام 2005 روايته الأولى بعنوان «راشيل كوري حمامة أولمبيا» (دار مجدلاوي، عمان). وفي هذا المقال نلقي الضوء على ما خفي من عطاء هارون هاشم رشيد. فالرواية تتناول حادثة حقيقية وقعت في 16 آذار/مارس 2003 وهي النهاية التراجيدية لفتاة عشرينية أمريكية تدعى راشيل كوري كانت في يناير/ كانون الثاني من ذلك العام، وفي أثناء الانتفاضة المعروفة بانتفاضة الأقصى قد هيئ لها أن بمقدورها أن تفعل شيئا ضد همجية الجيش الإسرائيلي، وتقديم الحماية للأطفال الفلسطينيين الذين يتعرضون لأبشع أنواع الإرهاب، وهو إرهاب الدولة الصهيونية، فعزمت على القدوم لقطاع غزة والاستقرار في منزل الدكتور سمير، الذي لا يلقي الكاتب الضوء الكافي على علاقته بها، أو بمجموعة التضامن مع الشعب الفلسطيني، التي تضم شخصيات أمريكية وإنكليزية وسويدية. منهم ستيفان وتوم ديل وجوزيف وآخرين، لا داعي لذكرهم ها هنا فدورهم في الرواية لا يتعدى دور الكومبارس في المشهد التمثيلي.
ويتابع الراوي العليم هذه الشخصية متابعة الظل لصاحب الظل، ابتداءً من حديثها إلى أبويها عن الفكرة، مرورا باقتناعهما بأن ما تنوي فعله، وما هي عازمة عليه، شيء لا يتنافى مع المبادئ التي انشئت عليها وربيت، وانتهاءً بمرافقته لها في رحلتها بالطائرة إلى أن حطت بها في أحد المطارات لتتوجه منه إلى قطاع غزة، وعبورها الحواجز واحدًا تلو الآخر مع ما لاقته في الأثناء من تحقيقات، ومن تأخير الغاية منه إشعارها بأنها شخص غير مرغوب فيه. وتختار أن تكون إقامتها في مخيم حي السلام على الحدود مع مصر في رفح، ويلازمها الراوي في حلها وفي ترحالها، في يقظتها وفي منامها، في أحلامها وفي ما يعتادها من كوابيس. وفي ممارساتها اليومية مع فريق التضامن ومواجهاته المستمرة لجنود الاحتلال، وجرافاته المتقدمة نحو بيوت الفلسطينيين لهدمها، والتصدي في هيئة دروع بشرية لحماية الأطفال من تعسف الإسرائيليين، ومن بنادقهم الرشاشة التي لا تكف عن إطلاق الأعيرة النارية لتحصد المزيد من الضحايا المدنيين.
بالإضافة لشعره وكتاباته البحثية عن الشعر والأدب، ومسرحياته، خاض تجربة كتابة الرواية، فأصدر في عام 2005 روايته الأولى بعنوان «راشيل كوري حمامة أولمبيا» .
ولا يفوته مع ذلك أن يرصد مشاعر الانجذاب والميل التي بدأت تدب في عروق ستيفان السوديدي تجاه راشيل الأمريكية، فلم ينتظر طويلا قبل أن يبوح لها بحبه، وهذا الحب لقي تربة خصبة مواتية عند راشيل، وما هي إلا ساعات معدودة حتى كان الاثنان قد اتفقا في سرعة قياسية، لا يتقبلها القارئ على الخطوبة. وللراوي في هذه الرواية طبيعة خاصة يشذ بها عن الراوي المعروف في الأدب الروائي. فهو ملتبس بالمؤلف الذي هو بدوره ملتبس بالدارس الباحث المؤرخ الإعلامي، الذي لا تغيب عن ذهنه صغيرةٌ أو كبيرةٌ من تضحيات شعب فلسطين وجهاده. ولا صغيرة أو كبيرة من ممارسات الإسرائيليين. فهو حين يستطرد متحدثا عن الانتفاضة يتذكر أسماء الشهداء واحدا تلو الآخر، من محمد الدرة إلى الطفلة إيمان حجو.. ولا يغيب عن فكره اسم واحد ممن اغتالتهم طائرات الـ F.16 من قادة فلسطين بمن فيهم صلاح شحادة. ولا تغرب عن باله تفاصيل الهجرة من المجدل إلى غزة مثلا، حتى لتكاد المعلومات التي يرويها على مسمع الأمريكية راشيل لا يعرفها الكثيرون جدا من الفلسطينيين، بمن فيهم أدق المتابعين للقضية من سياسيين وإعلاميين. وهذا بالطبع يضفي على مرويات هارون هاشم رشيد طابع التوثيق لا التخييل الروائي، ففي موقع آخر يذكر أرقاما لعدد المنازل التي دمرت، وأخرى للعمال الذين فقدوا أعمالهم، وثالثة لأعداد المستوطنين في المستعمرات التي أقامها المحتلون على أراض سرقت من الفلسطينيين في القطاع، وفي موقع آخر يذكر أنواع السلاح الإسرائيلي، والمكان الذي يستورد منه من العوزي إلى الأباتشي.. ومن الدلائل على المبالغة في التوثيق ذلك الاستطراد الذي يعود بنا إلى فهمي الحسيني رئيس بلدية غزة في عهد الانتداب البريطاني، الذي سمي في عهده الشارع الرئيسي بغزة باسم شارع عمر المختار نكاية بالإيطاليين الذين أعدموا المجاهد الأكبر. وهذه نماذج قليلة من كثيرة جدا وردت في متن الرواية، تدل دلالة لا تقبل الشك على أن الراوي في هذه الرواية هو هارون هاشم رشيد نفسه. مستفيدا من خبرته الطويلة المتراكمة، علاوة على أنه لا يخفي إطلاقا تقيده بمروياته هذه بما حدث وجرى فعلا، حتى إنه ليذكر الساعة واليوم والتاريخ واسم الشهر، فهذا جرى في يناير، وهذا في فبراير/شباط وهذا في آذار/ مارس.. من السنة 2003.
والغريب اللافت للنظر أن الكاتب ـ مع ذلك- لا يحول بين راشيل كوري ورواية حكايتها المؤثرة بنفسها من حين لآخر. واختار لهذا طريقتين، أولاهما هي استخدام المونولوج، ولاسيما عندما تحاول النوم، فيتأبى عليها الرقاد. فتنثال عليها الأفكار والتداعيات في هذه الأثناء فتقدم نفسها للآخرين، أو تؤكد إيمانها بصواب ما هي عليه من تفكير. تقول: «أنا راشيل، التي تصفونها بالمبتسمة الضاحكة.. التي تشيع المرح والبهجة حيثما حلت.. نعم. إنني أحلم.. بما تحلم به كل فتاة مثلي». وهذا مونولوج يمتد في صفحات من 89- 93 وتتعلق بهذه الطريقة طريقة أخرى، وهي مقارنة آرائها بآراء زميلتها في الكلية روزيت المنحازة للإسرائيليين، الكارهة للعرب والمسلمين كراهية عمياء، بلا سبب إلا الوقوع تحت تأثير التضليل الإعلامي الصهيوني والأمريكي.
وفي هاتين الطريقتين يكتشف القارئ أن المتحدث هو المؤلف نفسه. وليس راشيل أو روزيت، ولكن ثمة وسيط آخر لجأ إليه الشاعر رشيد، وهو الرسائل، مع أننا لا نستطيع أن نعد الرواية رواية تراسلية، فقد دأب على تضمين الفصول رسائل بعثت بها راشيل لوالديها عبر بريدها الإلكتروني. وبعضُ هذه الرسائل – في ما يبدو – رسائل حقيقية بدليل تلك الردود، والنسخ، التي أضافها في ملحق بالرواية بلغتها الأصلية الإنكليزية. مع أنه في سائر الرواية أنطق البطلة بالعربية، متجاهلا أن راشيل لا تعرف هذه اللغة، وتقوم بمساعدة أطفال المخيم على حل واجباتهم بالإنكليزية.
يكتشف القارئ أن المتحدث هو المؤلف نفسه. وليس راشيل أو روزيت، ولكن ثمة وسيط آخر لجأ إليه الشاعر رشيد، وهو الرسائل، مع أننا لا نستطيع أن نعد الرواية رواية تراسلية، فقد دأب على تضمين الفصول رسائل بعثت بها راشيل لوالديها عبر بريدها الإلكتروني.
وقد أضفت تلك الرسائل على حكاية راشيل مزيدا من المصداقية، التي تنفي عنها نسقية الكتابة الروائية المتخيلة، أو ـ على الأقل- القريبة من الخيال القصصي.
وقليلا ما يهتم الراوي بالطرف الآخر ـ الإسرائيلي- إلا بذكره الاحتلال، وجنوده، وخير مثال على هذا ما ورد عن العميد – كذا ـ شولومو، وما صدر عنه من تحريض لجنوده يسمح لهم، بل يشجعهم على الاعتداء على أفراد من فريق التضامن، بمن فيهم الأمريكيون، والإنكليز، مؤكدا أن هذا هو الدفاع عن النفس، مقتبسًا تصريحًا لجورج بوش الابن يقول «الرئيس بوش أعطى إسرائيل الحق في القتل تحت ذريعة ما سماه الدفاع عن النفس» فهذه الصيغة تحت ذريعة ما سماه صيغة فلسطينية، تتضمن الإقرار بأن الدفاع عن النفس حجة واهية، ومفتعلة، وكاذبة. وليس من المعقول أن يقول بها عميد إسرائيلي مثلما جاء في المشهد الذي يرويه الراوي، إلا إذا كان شولومو منحازا للفلسطينيين.
وتبعًا لما جاء في هذه المقالة من ملاحظات، نستطيع القول: إن الفقيد الكبير، وإن حاول أن يكتب الرواية، مضيفا لعطائه في الشعر عطاءً في النثر يدرجه في عداد الروائيين، إلا أنه – كغيره من الشعراء حين ينصرفون عن الشعر لكتابة الرواية قليلا ما يبدعون. ويذكر أنَّ لهارون هاشم رشيد رواية أخرى بعنوان «أبو جلدة والعَرْميط» (دار مجدلاوي، عمان، 2007) وهي شبيهة براشيل كوري من حيث أنها سيرة لشخصين من المقاومة الفلسطينية ظهرا في أربعينيات القرن الماضي واختلطت بسيرتهما الحقائق بالأساطير.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن
أصدر في العام ١٩٧٠ روايته ” سنوات العذاب “