من المهم الاعتراف بأن في داخل معظمنا قناعة لا تتزعزع بأن الغرب هو إله هذا العالم، الذي يتحكم في كل شاردة وواردة ولا يمكن لشيء أن يتحقق دون موافقته ومباركته. هذه القناعة، وبخلاف أنها متعارضة مع أبسط مبادئ الإيمان بوجود رب أكبر من كل الموجودات، فهي تتعارض أيضاً مع معادلات الواقع الذي نعيشه، والذي يخبرنا أن مخططات الغرب لم تكن جميعها ناجحة، وأن هذه الدول ذات العدة والعتاد وجميع أسباب القوة المادية لم تنجح في مرات كثيرة في تنفيذ ما كانت تسعى إليه. مشكلة الإيمان بألوهية الغرب تكمن في أنه يحجب عن أصحابه الرؤية الفعلية للواقع ويجعلهم منساقين لاعتبار أن كل حدث هو مجرد حبكة، وأن كل شيء إنما يمضي ضمن مخطط مقصود «من الكبار»، تخبر هؤلاء بأن هذه القوى الكبرى هزمت في أفغانستان، وفشلت في تحقيق مشروعها في العراق، بل فشلت في تطويق دولة ضعيفة كالصومال، فيردون عليك بأن هذه الهزائم مقصودة وأنها كانت أيضاً ضمن مخطط كبير ومصنوع بعناية لشيء في نفس الأمريكيين.
خطورة تأليه الغرب تتعاظم حينما يكون المصابون بهذا المرض من القادة والمفكرين، أو الفاعلين السياسيين، الذين يتحكمون بمصير الأمم، فهؤلاء يضعون كل بيضهم في سلة الغرب
المفارقة هي أن هذا الإيمان المتزايد بالغرب، يأتي في زمن بات فيه الغربيون أنفسهم يتشككون في واقعهم، ويتساءلون عن مصيرهم ومستقبلهم أمام تحديات جادة وتهديدات ليست الأزمات الاقتصادية ولا الماردان الروسي والصيني، إلا بعض تمظهراتها، حتى إبان الحديث عن هاتين الدولتين، فإن أنصار تأليه الغرب يعتبرون أن في الحديث عن صعودهم مبالغة، وأن خيوط اللعبة ما تزال عند الغربيين، الذين يمكنهم إن أرادوا أن يوقفوهم ويلجموا قوتهم. لك أن تتخيل أن هؤلاء يعتبرون أن روسيا، التي عجز التحالف الغربي عن صد هجومها على أوكرانيا، والتي يقلق أوروبيون اليوم من أن تطمع في تجاوز مجالها الحيوي القريب، وأن تحاول التمدد أكثر، يعتبرون أنها مجرد طرف تابع وقوة ثانوية في هذا العالم، وكذلك الحال مع الصين.
النظرة، التي كانت تعتبر أن الغرب قد وصل لحظة النهاية، وأنه سيتربع على عرش الزعامة إلى الأبد، والتي عبر عنها مفهوم «نهاية التاريخ»، الذي ظهر في بداية التسعينيات، للباحث الأمريكي فرانسيس فوكوياما، لم تعد مقنعة حتى للغربيين. إذا كان فوكوياما قد اعتبر أن الديمقراطية الليبرالية سوف تكون مقنعة للجميع وستتحول للمثال العالمي الذي يحتذى به، فإن الذي حدث هو أن النظام السياسي، سواء في أوروبا، أو في الولايات المتحدة، بات مثار شك، كما بات يثير أسئلة كثيرة جادة عن حقيقة تمثيله لرغبات وتطلعات الناس. خطورة تأليه الغرب تتعاظم حينما يكون المصابون بهذا المرض من القادة والمفكرين، أو الفاعلين السياسيين، الذين يتحكمون بمصير الأمم، فمثل هؤلاء يضعون كل بيضهم في سلة الغرب ويرهنون كل إرادتهم طوعاً في سبيل نيل رضاه. يؤسس هؤلاء برامجهم الفكرية والسياسية على قاعدة خادعة يقنعون بها أنفسهم وتكذبها وقائع عايشنا فصولها خلال مسيرة حياتنا القصيرة، قاعدة تقول إن من يربح رضا الغرب يربح كل شيء ومن يخسره يخسر كل شيء. إن أكبر دليل على خطأ هذه القاعدة هو أحداث طوفان الثورات العربية. صحيح أن الواقع في أغلب البلدان ما لبث أن أصبح أسوأ مما كان، إلا أن الشاهد هو أن تلك الاحتجاجات أدت لإسقاط زعماء كانوا يظنون أنهم محميون ومحصنون من أي انقلاب بفضل ما قدموه من خدمات. الحال مشابه مع ما حدث في دول الساحل الافريقي، حيث اقتلعت رياح التغيير خلال أيام قليلة وبشكل أبسط بكثير مما كنا نتوقع، أسماء كانت معروفة بعلاقتها الوطيدة بالغرب، خاصة المستعمر السابق، فرنسا.
أطروحة «هزيمة الغرب» ليست تهويمات متصوفة أو دعاية قوميين، بل هي حقيقة يدركها كل متتبع لسنن التاريخ ولكيفية صعود وانهيار الإمبراطوريات. تلك السنن تخبرنا أنه لا يمكن لهذا النموذج المشوه والساقط أخلاقياً أن يستمر لفترة أطول. إن كان البعض يرى أنه بقي بالفعل لفترة طويلة، فإن علينا أن نتذكر أن دورات التاريخ لا تقاس بأعمارنا. «هزيمة الغرب» كان العنوان الصادم، الذي اختاره المفكر الفرنسي إيمانويل تود لكتابه، الذي أصدره بداية هذا العام. الكتاب ما يزال يثير الكثير من النقاشات، ويدفع لاستضافة صاحبه في منتديات وندوات نقاش. هذا الاحتفاء المستمر يوضح أن مهتمين كثرا باتوا مقتنعين بأفكار تود، الذي لفت الانتباه لمعدلات الجريمة المتصاعدة، ونسب الإدمان على الكحول، وضعف التدين، التي رأى فيها كلها، إضافة للفوضى الأخلاقية، مؤشرات على اتجاه الغرب نحو الاضمحلال. هذا الاضمحلال، الذي يراه تود وغيره تحاول بروباغندا الهيمنة والكولونيالية الحديثة التشويش على من يلفت إليه، والتقليل من شأن من يتحدث عنه. تود نفسه وجد أنه أمام حملة تشويه قوية تنعته بالعميل لروسيا حيناً وبالجاهل، الذي يتحدث عما لا يجيده، في أحيان أخرى. في منطقتنا لن يكون مثل هذا الكتاب مثيراً للاهتمام لدى الأوساط، التي يجدر بها الاطلاع عليه، وهذا هو الحال مع كل الكتب والأطروحات، التي تشرح حجم التآكل والتناقض، الذي يعيشه الغرب، والذي يجعله يفقد تلك السطوة وذلك التأثير، الذي كان يمتلكه حتى عشرين أو ثلاثين عاماً مضت.
المشاهد كثيرة، ولكن هناك مثالا واحدا كفيلا بهدم نظرية الغرب/الإله واقتلاعها من جذورها. هذا المثال هو هزيمة الأمريكيين أمام جماعة طالبان الأفغانية. نحن نذكر أنه، وحتى أيام قليلة من إعلان سقوط كابول، كان المحللون يعتبرون أن الانتصارات الطالبانية تكتيكية، وأنهم إنما كانوا يريدون بهذا التقدم تقوية موقف الحركة التفاوضي. استبعد الجميع أن تجرؤ الحركة على الاستمرار أكثر، أو أن تعمل على الاستيلاء على العاصمة، لأن ذلك يمثل خطا أحمر بالنسبة للأمريكيين، الذين لن «يسمحوا» بإسقاط النظام. كانت انتصارات طالبان استثنائية وكافية من أجل تحسين وضعها في مفاوضات جادة. لو كان قادة الحركة قد وضعوا نصب أعينهم ما كان يردده المتابعون من أن الانتصار على الجيش الأفغاني المسنود من الأمريكيين مستحيل، فربما كانوا اكتفوا بأي نصيب يقدم إليهم، لكنهم على العكس اختاروا المضي حتى النهاية، وهو ما لم يفهمه كثير من أولئك المتابعين، الذين راحوا يفسرون التقدم العسكري، الذي وصل حد إسقاط العاصمة، بأنه كان نتيجة تفاهم مسبق وضوء أخضر أمريكي.
السؤال الذي كان يطرح على المؤمنين بوجود صفقة في ما يتعلق بالموضوع الأفغاني هو: على افتراض أن الولايات المتحدة كانت تنوي بالفعل الانسحاب من أفغانستان وتسليمها لحركة طالبان، فهل كان ذلك الاستسلام المخزي والمحرج والمسيء لصورة الولايات المتحدة وكذلك الصورة الهزيلة، التي ظهر بها الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو يحاول التبرير والاعتذار، جزءاً من هذه الصفقة؟ المثال الأفغاني لم ينته بمشهد السقوط والانسحاب، بل ظل مستمراً بتفاصيل مختلفة حتى اليوم. من هذه التفاصيل، أن ذلك البلد، الذي يقاطعه العالم، والذي استولت الولايات المتحدة، التي رفضت الاعتراف بشرعية حكومته، على مبالغ سيادية كبيرة تابعة له كانت موجودة في خزائنها، لم ينهر كما كان متوقعاً، بل ما لبثت المؤشرات العالمية أن جعلت منه مثالا على النمو الاقتصادي والتحكم الناجح في التضخم.
ويبقى السؤال بعد كل هذا: هل كل ما يتمناه الغرب يدركه؟
كاتب سوداني