تعددت المرات التي أشارك فيها جلسات عدد من شباب الكتاب. لم يكن الأمر فيها مقررا ولا منظما، لكنها صُدف الجلوس في المقهى. لم أعد مواظبا على جلسات الكتاب في منطقة وسط البلد في القاهرة، ولا في الأماكن التي شهدت من سنوات عمري الكثير. مقاهي ريش.. البستان.. الجريون.. ستيللا.. الحميدية أو غيرها.
أمر طبيعي مع التقدم في العمر ومع انتقال سكني إلى خارج القاهرة، بل خارج الجيزة أيضا، فضلا عن افتقادي لكثير من الأحباء، نجيب سرور، أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، خيري شلبي، جودة خليفة الفنان التشكيلي، عبد الرحمن أبو عوف، محمد عفيفي مطر، وغيرهم الكثير.
طبيعي أن ينتقل الإنسان مع التقدم في العمر من الشعور بترف الوقت إلى الشعور بالخوف من مرور الوقت. أتذكر أن كل جلساتنا التي كانت حافلة بالضحك طبعا، كانت أيضا حافلة بالسياسة والحديث السياسي، الذي يصل أحيانا إلى إصدار البيانات في مواجهة الحكام، خاصة أيام الرئيس السادات، أو في مواجهة بعض المثقفين الذين رأوا في هذه الجلسات جلسات للرعاع. كثير من الكتاب تعرضوا للمحاكمات بدرجات، وتعرضوا للحبس والاعتقال بدرجات، حتى جاء علينا يوم يشك فيها الجالسون في من لم يتم القبض عليه يوما ما! كانت حجة النظام دائما هي الانتماء إلى أحزاب شيوعية. وكان القبض على الكاتب بمثابة كارت ثقة له بين زملائه في بعض الأحيان! ورغم الاهتمام الكبير بالسياسة التي تمتد إلى العالم العربي وقضايا تاريخية مثل قضية فلسطين أو حروب مثل حرب لبنان أو غزو الكويت أو الحرب على العراق، كان كل الكتاب تقريبا إلا في حالات نادرة يفرقون بين الأدب والسياسة، حين يكتبون. أدبيا يمكن القول على الإجمال أن كل هؤلاء الكتاب وغيرهم تركوا آثارا رائعة من الشعر والمسرح والقصة والرواية، لكن كل الأحلام السياسية انتهت إلى لاشيء. إلى العدم في الحقيقة. ومن ثم كان سؤالي عنوانا، هل كان إيماننا بتغيير العالم خطأ، خاصة إذا نظرنا إلى تمكن اليمين من أكبر دول العالم الآن، خاصة وقد صارعلى قمة العالم رجل مثل ترامب يتبجح قائلا أعطوني فلوسا مما لديكم لأحميكم وأوافق على ما تفعلون. الأمر يمتد إلى كثيرمن الدول الأوروبية التي تقف صامتة أمام انتهاكات حقوق الإنسان مادامت تبيع أسلحة لدول الشرق الأوسط وغيرها طبعا. في ذلك الوقت، وإلى زمن قريب كان عدد الكتاب في كل مجال، الكتاب المتحققين أقصد، شعرا أو قصة أو رواية أو مسرحا، عشرة أو خمسة عشر كاتبا. مع الطفرة السكانية صار في كل مقهى عشرون قاصا وعشرون شاعرا، بل أحيانا أكثر بكثير. وفتحت الميديا صفحاتها لمئات الكتاب. وهذا ليس عيبا، بل هو التطور الطبيعي للحياة.
كان نجيب محفوظ يبتعد عن السياسة اليومية ويملأ رواياته بوجهات نظره في كل شيء من السياسة إلى الوجود الإنساني.
لكن في جلساتي بين معظم هؤلاءالكتاب لا أرى اهتماما بالأوضاع السياسية، بل كثير منهم يراها مفسدة للأدب. كنا نراها كذلك عند الكتابة لكنهم يرونها كذلك في الكتابة الأدبية والحياة أيضا فلا يقتربون من الحديث فيها. هذا التطور في علاقة الكتاب بالحياة اليومية لا يضايقني أبدا، بل أنا فقط أشخص الفارق بين زمنين، وأسال السؤال هل كنا على خطأ؟ هل كنا أغبياء؟ والكتاب الجدد في أكثرهم يقدمون أعمالا جيدة، بل أكثر من جيدة. يمكن القول إن بينها كثيرا من الأعمال الممتازة.
أتذكر الآن نجيب محفوظ بين كل الكتاب من كل الأجيال، كان يبتعد عن السياسة اليومية ويملأ رواياته بوجهات نظره في كل شيء من السياسة إلى الوجود الإنساني. شهدت الستينيات والسبعينيات وأيضا من قبل في الخمسينيات انقلابا على هذا التصور. وانشغل الكتاب بالسياسة أيضا في حياتهم وأحيانا في كتاباتهم وشهدت مصر أكبر موجة اعتقالات للكتاب في يناير/كانون الثاني عام 1959. قارن مثلا بعد ذلك بين مقالات يوسف إدريس في السبعينيات ومقالات نجيب محفوظ. لا تجد مقالات لنجيب محفوظ، بل تجد أعمالا أدبية، بينما يوسف إدريس كان يشتعل نارا في الجبهتين. الآن نحن لا نعرف من كليهما إلا الأدب والإبداع. لا بد أن الأسماء الجديدة من الكتاب أخذت هذا الدرس مبكرا. لقد كان أول مسمار في أوهامي المجسدة زيارة لي إلى الاتحاد السوفييتي عام 1990 آخر سنة للشيوعية ذلك الوقت. أدركت كيف مضت سبعون سنة منذ الثورة البلشفية في رفع شعار تغيير العالم، بانهيار الاتحاد السوفييتي وبحث أهله عن كل ما يأتي من الغرب كحلم جديد. كان الحديث عن البنطلون الجينز الأمريكي حديثا عن أمل. ورأيت زحاما رهيبا على محل ماكدونالد الأمريكي في شارع مكسيم غوركي من فضلك! بل وفي مرة رأيت محلين للآيس كريم، أحدهما روسي والآخر إنكليزي، في المحل الروسي لا يقف أحد تقريبا وأمام المحل الإنكليزي طابور طويل بينما الآيس كريم الروسي كان أفضل بكثير جدا. كل الشعارت عن تغيير العالم كانت ترفرف في سماء دول ديكتاتورية، ومنها الدول الجمهورية في العالم العربي. لذلك فشلت طبعا ووصلنا إلى ما نحن فيه.
صارت الأحاديث الآن إذا انحرفت إلى السياسة تدور حول الأوضاع المتردية والحروب التي بلا معنى في العالم العربي، وتنتهي بسرعة كأنها في كوكب آخر ويبدا الضحك من بعض المواقف بين الأدباء في الحياة، بل أرى الابتسامات أكثر على وجوه الكتاب الشباب مما كانت على وجوهنا. ولأنني أتابع كثيرا مما يكتبون أراهم يكتبون عن خراب العالم كما كنا نكتب، أي أنهم غير راضين عما حولهم، لكن في الإبداع وليس السياسة. أحسدهم أحيانا وأقول في نفسي نفذتم ولم تضيعوا وقتكم وأعود إلى كتاباتي أيضا عن خراب العالم، لكن أتذكر الماضي وأسأل هل كنا أغبياء. في بعض الأحيان يخيل لي أن أسوأ ما اعتقدناه هو القدرة على تغيير العالم. العالم تقنيا يتغير، لكنه سياسيا يعود إلى الوراء، وما أقصده طبعا ليس التغير التقني لكن الأوضاع السياسية. تبقى البهجة في ذكريات عن كتب قرأناها عن تغيير العالم! وفي لقاءات مع كتاب عرب كانوا يفدون إلى مصر ويتحدثون ونتحدث معهم عن وطن أفضل. كانت لقاءات مملوءة بالتفاؤل رغم أن هذه الأوطان ضاعت بعد ذلك.
٭ روائي مصري
ما نشعر به جميعا نحن الذين عشنا حروبا عربية دنكشوتيه، وخطط خمسية خلبية، وخطابات نارية مزيفة، وآمال زائفة أننا كنا فعلا إغبياء.. أجيال اليوم تضيع كما ضعنا ايضا وعالمنا يسير إلى الوراء في عوالم تسير الى الامام
كعادة أستاذ ابراهيم عبدالمجيد مقال رائع شيق ينبض بالصدق والمشاعر المرهفه