هل كنا مخدوعين بدهاء الغرب وذكائه؟

ليس هناك أدنى شك أن الغزو الروسي لأوكرانيا واندلاع الصراع من جديد بين روسيا والغرب أزال الكثير من الغشاوة عن عيون الكثيرين بمن فيهم المحللون والسياسيون والإعلاميون الذين كانوا حتى وقت قريب يرون الأمور بمنظار آخر فيما يخص دهاء أمريكا والغرب وتحكمه بمفاتيح السياسة الدولية ومفاصلها. لكن التطورات اللاحقة للغزو الروسي بدأت تكشف لنا أن الغرب في واقع الأمر كما يبدو كان يتصرف بعقلية متخلفة إن لم نقل ساذجة، هذا إلا إذا كانت لديه أوراق مخفية لم يلعب بها حتى الآن وقد تقلب الطاولة على الخصمين الرئيسيين في العالم، الصين وروسيا. هذا نتركه لقادم الشهور والسنين، لكن تعالوا الآن نركز على قضيتين اثنتين تبدوان صارختين جداً فيما يخص التخبط والعجز الغربيين في التعامل مع مآلات الحرب في أوكرانيا.
لا شك أنكم تلاحظون هذه الأيام كيف أثر الغزو الروسي على الاقتصاد الأوروبي وحتى الأمريكي بطريقة تبعث على الاندهاش، فقد اعتقدنا في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا أن العقوبات الغربية المتلاحقة على روسيا ستشل الاقتصاد الروسي وستدمر العملة الروسية الروبل وستجعلها برخص التراب. لكن العكس قد حصل، فقد تعافى الروبل الروسي وأصبح أقوى بكثير مما كان عليه الوضع قبل الحرب. كما لم نشهد أي أزمة غذاء أو أي أزمات اجتماعية واقتصادية ومالية خانقة في روسيا، خاصة وأن الروس يتحكمون بسبعة عشر بالمائة مما يستهلكه العالم من القمح، بالإضافة طبعاً إلى مخزون النفط والغاز الهائل. في هذه الأثناء، لم يعد يخفى على أحد أن الدول الأوروبية كلها دون استثناء باتت تواجه أزمات اقتصادية ومعيشية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث، فحتى ألمانيا رائدة الاقتصاد الأوروبي باتت تنازع، وقد يصبح الوضع مرعباً في عموم أوروبا في فصل الشتاء بعد انقطاع الغاز الروسي عن القارة العجوز. ولا ننسى أيضاً ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت في بريطانيا مثلاً إلى حوالي عشرة بالمائة، بينما ارتفعت الأسعار بشكل رهيب جعل ملايين الأوروبيين يبدؤون بالتفكير حتى بوجباتهم اليومية بعد أن غدت الرواتب تصارع يومياً معدلات التضخم والغلاء الحارقة. ولا يختلف الوضع في أمريكا البعيدة التي تواجه أسعار وقود متصاعدة تؤثر في حياة معظم الشعب الأمريكي. والسؤال الذي يبرز هنا: هل يعقل أن أوروبا لم تكن لديها الخطة باء في حال تدهورت العلاقات مع روسيا ذات يوم لسبب من الأسباب؟ لماذا وضع الأوروبيون كل بيضهم في السلة الروسية فيما يخص واردات الطاقة وخاصة الغاز؟ لماذا استثمرت ألمانيا مليارات الدولارات في خطوط الغاز مع روسيا وكأنها كانت تفكر بالاعتماد على الغاز الروسي إلى ما شاء الله؟

لماذا استثمرت ألمانيا مليارات الدولارات في خطوط الغاز مع روسيا وكأنها كانت تفكر بالاعتماد على الغاز الروسي إلى ما شاء الله؟

ألم يذهب خطا الغاز الشهيران «نورد ستريم 1واثنان» أدراج الرياح بعد أن اضطرت ألمانيا وقف إمدادات الغاز القادمة من روسيا في إطار العقوبات الغربية على موسكو بعد غزوها لأوكرانيا؟ ألم يصل الأمر بالحكومة الألمانية إلى الاعتراف قبل أيام بأن الكثير من الصناعات الألمانية الكبيرة قد تتوقف بسبب ندرة الغاز؟ ألا ينطبق الأمر ذاته على الدول الأوروبية الكبرى الأخرى التي أيضاً باتت تواجه كوارث حقيقية بسبب الصراع مع روسيا؟ هل يعقل أن الأوروبيين لم تكن لديهم خطط طوارئ في أخطر قضية مصيرية بالنسبة للدول ألا وهو موضوع الطاقة عصب الحياة كلها؟ ألا تبدو كل دول الاتحاد الأوروبي الآن في حالة إرباك وارتباك شديدين وباتت تتوسل القاصي والداني كي يعوضها عن إمدادات الغاز الروسي الذي سيصبح تأثيره كارثياً في فصل الشتاء القادم أولاً بسبب ندرته وثانياً بسبب ارتفاع أسعار الطاقة بشكل عام مما يشكل عبئاً ثقيلاً جداً على جيوب الشعوب الأوروبية. هل هذا تفكير دول عظمى تضع مخططات لعشرات السنين إلى الأمام وتدرس كل الاحتمالات والأزمات الممكنة، أم إن الغزو الروسي جعل الكثيرين يسخرون من الاستراتيجيات المستقبلية الأوروبية التي لم تكن موجودة أصلاً؟ كيف تعتمد على واردات الطاقة من جار كان مصنفاً غربياً على الدوام أنه عدو محتمل؟
ثم لماذا لم تفكر ألمانيا مثلاً بتعزيز قدراتها العسكرية والدفاعية وهي تعلم أنها محاطة بضباع من كل حدب وصوب ينفقون المليارات على السلاح وخاصة الروس؟ صحيح أن الاتفاقيات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية تحد من قدرة الألمان على التسلح، لكن كما لاحظنا في اللحظة التي شعرت ألمانيا بالخطر جراء الغزو الروسي لأوكرانيا خصصت فوراً مائة مليار دولار للتسلح، وهو أمر يدعو إلى الضحك، ويذكرنا بالمقولة الشعبية « ما نفع العليق عند بدء الغارة؟»
أما الأمر الثاني الذي يجعلنا ننظر بكثير من التهكم إلى ردود الأفعال الغربية هذه الأيام أن مجموعة السبع الكبار التي اجتمعت في ألمانيا بدأت تتحدث عن بناء بنية تحتية دولية بكلفة تزيد على ترليون دولار لمواجهة طريق الحرير، أو ما يعرف بالحزام الصيني الذي بات يخترق العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه. صح النوم يا جماعة. هل انتبهتم الآن فقط إلى خطورة الأمر؟ ماذا كنتم تفعلون بينما كانت الصين تعقد اتفاقيات مع القاصي والداني بمن فيهم حلفاء أمريكا في كل بقعة من العالم لتمرير طريق الحرير عبر أراضيها وأيضاً الاستثمار فيه؟ لماذا لم تمنع أمريكا مثلاً توابعها في العالم من الاستثمار في طريق الحرير أو السماح بمروره في أراضيها قبل سنوات وسنوات؟ هل كانت أمريكا تترك الحبل على الغارب للصين كي تتمدد وتنفق المليارات على مشاريعها الدولية ثم تبدأ أمريكا بتخريب المشاريع الصينية؟ قد يكون الأمر كذلك. هل يا ترى كانت أمريكا والغرب تستخدم سياسة الخداع الاستراتيجي للإيقاع بالصين ثم الانقضاض عليها، أم إن الغرب يتعامل مع الاجتياح الصيني للعالم بالقطعة وبسياسات مستعجلة وآنية، بدليل أن شركة هواوي الصينية أنجزت مشروعاً كبيراً في بريطانيا لإعادة بناء شبكة الاتصالات البريطانية، ثم تعرضت لندن لضغوط أمريكية للاستغناء عن المشروع الصيني واقتلاعه من أرضه بعد أن أنجر بنية تحتية كبيرة في بريطانيا؟
هل يا ترى كنا مخدوعين بذكاء الغرب ودهائه بعد أن بات يتخبط في ردوده على أزمة أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً؟ هل كان يملك أي خطط بديلة أم يتصرف الآن بعقلية عالمثالثية عبثية يوماً بيوم؟ أم إن الدهاء الغربي مازال موجوداً ومن يضحك أخيراً يضحك طويلاً؟ دعونا ننتظر.

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مراقب حر:

    أم إن الدهاء الغربي مازال موجوداً ومن يضحك أخيراً يضحك طويلاً؟ دعونا ننتظر.
    الجواب: دعونا ننتظر

  2. يقول الغريب:

    لا دهاء ولا ذكاء ولا عكسهما وانما لله الامر كله حيث لا يقع في ملكه ما لا يريد سبحانه وتعالى .

  3. يقول وديع الشوبكي:

    ما يهمنا يا دكتور انا العرب لا قيمة لهم ومهمشون وتابعون للغير. وسوف ينصاعون لاوامر امريكا رغما عنهم بخصوص النفط وغير النفط. اننا ضحية بما يحدث بين الغرب وروسيا. شكرا علی مقالات النيرة.

  4. يقول فريد:

    الجواب : نعم مخدوعين جدا
    سياسة فرق تسد ساعدتهم على ركوب واخضاع الدول الاخرى بالاضافة لوفرة المياه في اراضيهم ..

  5. يقول المحمدي احمد:

    هذه معركة استعد لها العقل الروسي المخابراتي منذ مدة طويلة وقد استطاع أن يحقق فيها اختراقات عظيمة للقلعة الغربية عبر التجنيد (ترامب مثلا) وعبر الخداع الاستراتيجي الذي جعل الغرب في حالة تنويم مغناطيسي اساسه ادمان الغرب على الثروات الروسية الضخمة والرخيصة ونفس الشرك وقع فيه مع الصين التي استخدمت الطعم في السنارة لجذب الاستثمارات الغربية التكنولوجية تحت وقع الأرباح الخيالية المؤقتة من أجل الاطلاع على أسرارها وبالتالي استيعابها وإنتاجها محليا بثمن زهيد وتسويقها عبر العالم والعمل الثالث هو انشغال الغرب بتدمير العالم الإسلامي ودوله رغم أن هذا العالم لا يشكل له أدنى تهديد سوى الاختلاف الديني والعقدي فهذا العالم لا يملك أسلحة استراتيجية نووية ولا ترسانة عسكرية محلية الصنع ولكن الذي حرف بوصلة الغرب لرؤية التهديد الحقيقي لوجوده هو الكيان الصهيوني المتحكم في دوائر الغرب الإعلامية والمالية

  6. يقول محمد شهاب احمد:

    السيد الكاتب
    في الحروب تسقط جميع الحسابات

  7. يقول process:

    لا أعتقد أن الغرب تصرف بعقلية جاهلة تجاه الأزمة الأوكرانية, فهو يدرك تماما مدى أهمية و مساهمة روسيا العالمية في مجال الطاقة و أيضا مدى إعتماد الأوروبيين على وجه الخصوص بالنفط و خاصة الغاز الروسيين, فإذا أردنا أن نقرأ الموقف الغربي بشكل أدق سنجد أنه ليس على قلب رجل واحد فالأوروبيين هم الأكثر تضررا من الغزو الروسي و العقوبات المفروضة على روسيا و تبعاتها العكسية, أما الأمريكيين فهم الأقل تضررا بل على العكس هم الأكثر إستفادة على الرغم من إرتفاع معدلات التضخم و سعر الوقود و يتجلى ذلك من خلال بيع الأسلحة و بيع الغاز المسال إلى الأوروبيين. و يمكن التأكيد على أن أزمة الغرب عموما هي أزمة طاقة بالأساس و كلمة السر في حل هذه الأزمة هي في الإتفاق النووي الإيراني, فإذا تم التوقيع عليه و تم رفع العقوبات سيتم ضخ النفط و الغاز الإيرانيين إلى الأسواق و بالتالي إنخفاض أسعارهما عالميا و كما لا ننسى فنزويلا صاحبة أكبر مخزون من النفط عالميا و العقوبات الأمريكية المفروضة عليها و هكذا سيضرب الغرب عصفورين بحجر واحد, من جهة حّل مشاكل الغرب الإقتصادية و من جهة أخرى سنشهد فاعلية و جدوى العقوبات على الإقتصاد الروسي القائم بلأساس علة قطاع الطاقة

  8. يقول ابو نظارة:

    الغرب حاليا يركز على التفاهات من المثلية وحق الإجهاض.وجائهم الموت من حيث لم يحسبوا.

  9. يقول حمودي:

    الفصل المنسي هو تبعية اوروبا الدائم لتوصيات امريكا التي تريد ان تستنزف روسيا خارج الديار،ثم لماذا امريكا تنصلت من تعهداتها القدبمة بأن الحلف لن بمتد الي دول الشرق .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية