لندن ـ «القدس العربي»: طيلة عقود من الزمن، كان تيار وسط الأنظمة العربية الحاكمة منبهرا بالقوة العسكرية للكيان الإسرائيلي. ونتج عن هذا الانبهار ظاهرتان كانت لهما أبلغ التأثير على المسار العسكري في العالم العربي وهما: الإحساس بصعوبة هزم الجيش الإسرائيلي، ثم لاحقا الانسياق وراء فكرة ضرورة التنسيق مع جيش الكيان لضمان أمن بعض الدول العربية.
وعمليا، اقترن الكيان في المخيال العربي بالقوة العسكرية الكبيرة والقاهرة، وساهمت الأحداث التاريخية في حربي 1967 وكذلك 1973 رغم الانتصار العربي النسبي، في تعاظم هذه الفكرة لدى عدد من القادة العرب. ويعود هذا الاعتقاد العسكري إلى ضعف الدول العربية إلى عوامل متعددة على رأسها:
أولا: ضعف الدراسات الاستراتيجية في العالم العربي لإجراء تقييم فعلي لقوة إسرائيل، لاسيما في الستينات وحتى نهاية التسعينات، إذ كان العالم العربي يفتقر لخبراء كبار في التقييم العسكري بل وحتى في التخطيط نظرا لضعف الاستطلاع الحربي أساسا.
ثانيا: ضعف التسليح في العالم العربي، إذ لم يكن الاتحاد السوفييتي يقدم الأسلحة النوعية المتقدمة، عكس ما فعلت الولايات المتحدة مع إسرائيل التي زودتها بأعتى الأسلحة لضمان التفوق ثم تقديم الدعم في كل الحروب.
ثالثا: نجاح الاستخبارات الإسرائيلية في الكشف عن بعض الانقلابات في عدد من الدول العربية، وأصبحت أنظمة عربية تقيم علاقات سرية مع الكيان وتتقرب إليه للحفاظ على كرسي الرئيس أو الملك في السلطة.
الرهان على الموساد الإسرائيلي
كان المنعطف الكبير في علاقات الأنظمة مع إسرائيل هو الذي حصل في الربيع العربي. انهيار أنظمة رئاسية في مصر وليبيا واليمن وتونس ثم التهديد بموجة جديدة من الربيع العربي قد تستهدف الأنظمة الملكية، جعل عددا من الأنظمة العربية وخاصة الملكية منها تراهن استخباراتيا على الموساد الإسرائيلي. وبالفعل، قامت الموساد ما بين سنتي 2016 إلى 2020 بأكبر عملية تتبع ومراقبة للنشطاء الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين العرب ومن يتضامن معهم في الغرب، والمشاركة في التمهيد لعمليات الاعتقال أو القتل الرمزي والمعنوي لهؤلاء النشطاء بدعم وتنسيق من دولهم. وتبقى العلامة الدالة على هذا التعاون الاستخباراتي هو ملف «بيغاسوس» برنامج التجسس الإسرائيلي الذي اقتنته عدد من الدول العربية للتجسس على معارضيها.
وكان قرار البيت الأبيض بعدم شن الحرب ضد إيران لعدم ضمان البنتاغون الانتصار في ظل ارتفاع قوة إيران العسكرية وخاصة الصاروخية، تأثير كبير على التعاون بين بعض دول العالم العربي وإسرائيل عسكريا. وأمام نهاية حلم إنهاء المشروع النووي الإيراني بالقوة العسكرية، قامت إسرائيل بتقديم «صيغة الخلاص» التي كانت تنتظرها هذه الأنظمة وهي عرض التعاون العسكري على بعض الأنظمة العربية وأساسا الإمارات والبحرين وبشكل محتشم على العربية السعودية لمواجهة إيران. هذه هي الصيغة كذلك التي استعملتها في إقناع المغرب للتعاون العسكري أمام قوة الجزائر وإسبانيا، ويكفي استحضار تصريحات رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران الذي قال «الجزائر هي التي دفعتها للتطبيع مع إسرائيل».
غير أن التطورات التي حملها 7 تشرين الأول/أكتوبر و«طوفان الأقصى» قامت بتدمير هذه الأطروحة العسكرية ووضع الدول العربية التي طبعت عسكريا أمام واقع جديد من المصطلحات التي تناسبه «واقع مرير ومحرج».
من ضمن العوامل الرئيسية أو الحجج التي استعملتها الدول المطبّعة لتبرير التقارب مع إسرائيل هو توفير الأخيرة الدعم العسكري والاستخباراتي الذي سيساهم في استقرار الدول المطبّعة. وجاءت عملية الطوفان لتبرز مدى الرهان الخاسر للأنظمة العربية على إسرائيل. فقد تبين استخباراتيا فشل الموساد والشاباك في رصد إعداد حركة حماس لعملية الاقتحام. ورغم أن جريدة «نيويورك تايمز» أوردت يوم الجمعة 1 كانون الأول/ديسمبر 2023 بوجود تقرير يتحدث عن عملية الطوفان لدى الجيش الإسرائيلي، إلا أن الأمر لا يتعدى نهائيا عملية تكهن واستشراف لما قد يحدث وليس عملية تأكيد بأنه سيحدث. علاقة بهذا، الكثير من دول العالم تعد دراسات حول مصادر الخطر وتضع خططا لمواجهتها، وفي الغالب لا تحدث. في الوقت ذاته، يتبين للعالم كيف أن إسرائيل فشلت في القضاء على حركة حماس ولجأت إلى قتل المدنيين وخاصة الأطفال. ويكفي أن إسرائيل استعملت في هذه الحرب قنابل توصلت بها من الولايات المتحدة بعد عملية طوفان الأقصى.
وأمام هذه التطورات، توجد الدول التي قامت بالتطبيع العسكري مع إسرائيل أمام تحديات منها: هل ستستمر في التنسيق مع كيان لا وازع أخلاقي له يقوم بحرب الجبناء بقتل المدنيين وخاصة الأطفال؟ ثم هل ستثق هذه الدول في قوة إسرائيل العسكرية وهي التي لم تنجح في القضاء على حماس رغم الدعم الأمريكي بل احتاجت للدعم الأمريكي لإدامة الحرب؟