لحظة انتهاء دور أمريكا كقائد للعالم باتت واقعية، بقطع النظر عن رغبتها في مواصلة دورها المهيمن على شؤون العالم، التي ربما تتضح بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في العام المقبل. يحسن بواشنطن أن تتأمل في خريطة العالم الجديدة ومتغيراتها الجيوسياسية، وأن تفكر قبل أن تقدم على الخطوة التالية. ثمة حاجة إلى فترة طويلة من التدبر، حتى الآن لم يخل صراع انهمكت فيه الولايات المتحدة خلال قرن مضى من الزمن من خطأ فادح. مع ذلك ما زالت ترتكب الأخطاء، وتقود حربا مع كيانها النازي ضد شعب أعزل ومواطنين أبرياء في فلسطين، جيوش تواجه فصائل مقاومة ترغب في تحرير وطنها من الظلم والاستعمار، إنها الإهانة والخزي الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
بحر الصين الجنوبي يتحول بشكل واضح إلى ساحة مواجهة بين واشنطن وبكين، وفي الوقت الذي تعهدت فيه ألمانيا وفرنسا بدعم الأمريكيين لضمان حرية الملاحة البحرية هناك. تعمل واشنطن على دعم حلفائها في المنطقة وأساسا أستراليا والهند واليابان. وهو تصعيد في مواجهة دولة عظمى مثل الصين التي صارت اليوم ورشة التصنيع في العالم، والشريك التجاري الأول لمعظم الاقتصاديات الرئيسية، والمحرك الأول لنمو الاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية في عام 2008 أمثال جون آيكينبري وجون ميرشايمر وستيفن وولت، يؤكدون أنّ على صنّاع السياسة الأمريكية ضمان خلق نظام محدود هائل بإمكانه احتواء التمدّد الصيني. تتطلّب هذه المهمّة إيجاد مؤسّسات اقتصادية على غرار الشراكة العابرة للباسفيك، وتحالفا عسكريا في آسيا مشابه للناتو أثناء الحرب الباردة. في خضّم هذه العملية ينبغي على الولايات المتحدة أن تذهب إلى أبعد الحدود لسحب روسيا من فلك الصين، وإدماجها في النظام الذّي تقوده الولايات المتحدة.
خيارات تبدو صعبة، بل لعلها مستحيلة في ضوء تصاعد المواجهة بين موسكو وتحالف الأطلسي. الصين تعد الآن أكبر شريك تجاري لعدد أكبر من الدول مقارنة بالولايات المتحدة، ومحاولة تقليص جميع أشكال التجارة مع بكين بالنسبة لواشنطن منذ ترامب إلى بايدن هي بمثابة العمى السياسي بالتأكيد. هم يعلمون أنها مكلفة للغاية بالنسبة للولايات المتحدة لأن لديها أيضا تعاملات تجارية كثيفة مع الصين. لذلك يكتفون بالمهادنة رغم هذيان التصريحات أحيانا التي لا جدوى منها. ومن الصعوبة في ظل هذه الظروف تخيل كيف قد تكون المواجهة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين قابلة للاستمرار من الناحية المالية، بصرف النظر تماما عن الصعوبات العسكرية والبحرية. كلا الجانبين يعاني من نقاط ضعف اقتصادية تعمل على تقويض الدوافع الرامية إلى الحد من الاعتماد المتبادل. ولا سبيل أن تخفي أي دولة اليوم ضعفا بنيويا حادا على الجانب المالي. ما بالك بحرب مباشرة، فمن الصعب للغاية التنبؤ بالعواقب الاقتصادية المترتبة على مثل هذا السيناريو بدقة، ولكن كلمة «كارثية» تشير إلى نفسها، ولا تحتاج لرؤية أو تقدير استشرافي.
لم يخل صراع انهمكت فيه الولايات المتحدة خلال قرن مضى من الزمن من خطأ فادح، مع ذلك ما زالت ترتكب الأخطاء، وتقود حربا مع كيانها النازي ضد شعب أعزل ومواطنين أبرياء في فلسطين
نظرية المؤرخ الاقتصادي الأمريكي تشارلز كيندلبرغ، في مجال العلاقات الدولية، التي ترى أن العالم يحتاج إلى قوة مهيمنة للمحافظة على هذه القواعد، وتحقيق النظام والاستقرار بشكل عام، معتبرا أن اختفاء القوة المهيمنة يعيد العالم إلى حالته الأولى، وهي الفوضى لأن العالم على عكس أي دولة، لا توجد فيه حكومة واحدة تحتكر شرعية استخدام القوة. يتفق معها كثيرون من أمثال المحلل الألماني أندرياس كلوث وحتى جون اكيمبري وستيفن والت وغيرهم. وهي تقديرات يُبنى عليها في خصوص تراجع الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي في السنوات الأخيرة، بالتزامن مع صعود قوى أخرى في مقدمتها الصين، على اعتبار أن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على التفاعلات السياسية والسلم والحرب في العالم. تساؤلات كثيرة تتعلق بتراجع الدور الأمريكي، وما إذا كانت الولايات المتحدة قد سئمت من الدفاع عن النظام العالمي القائم على القواعد، وما إذا كان العالم يسمح بتدهور مكانة الولايات المتحدة، أم عليه تشجيع استمرار التفوّق الأمريكي؟ مأساة استعمارية سوداء منذ أن كانت بريطانيا تهيمن على العالم، خاصة بالنسبة للشعوب التي كانت تحتلها، والهيمنة البريطانية لم تجعل الأمر أكثر نظاما مما كان سيصبح عليه دون وجودها، بل خلقت الفوضى في العالم وفق منطق نهب واستعمار واصلته الولايات المتحدة من بعدها. ويكفي أن كلتيهما تشتركان في جريمة زرع كيان استيطاني نازي يعربد في الشرق الأوسط، ويدمر الإنسان والحجر والشجر، ويرتكب أفظع الجرائم الإنسانية.. وهو فوق القانون الدولي، ولا يحاسب لأن الدول التي وضعته في المنطقة كيانا وظيفيا وتخريبيا، تحميه من كل مساءلة، وتدعمه بكل الأشكال خوفا على نهايته. هل فعلا مصطلح الهيمنة يتجاوز قدرة دولة ما على الدفاع عن دولة أخرى، لأنها تعني القدرة على وضع قواعد النظام وتطبيقها، ومن ذلك التحكم في تدفق الأموال إلى حركة التجارة والملاحة، ضمن ما يعرف باسم «المصالح العامة»؟ المحافظون الجدد في أمريكا كانوا بلا هدف في مجال السياسة الخارجية، مفكرون أمريكيون كثر دعوا إلى رؤية أكثر رقيا للدور الدولي الأمريكي، مقترحين على الولايات المتحدة أن تتبنى موقف «الهيمنة العالمية الهادفة»، أقلها ما صرح به راوول مارك كرشت، الباحث في مشروع القرن الأمريكي الجديد: ليس لدينا خيار سوى أن نعيد غرس الخوف داخل أعدائنا وأصدقائنا من الارتباط بأي قوى عظمى.. الحرب فقط هي التي ستستعيد وبشكل حاسم الخوف على حماية المصالح الأمريكية بالخارج والمواطنين في الداخل. النظام العالمي المنقوص بعد الحرب العالمية الأولى، فتح الباب أمام الفوضى عندما تآكلت هيمنة بريطانيا، في حين لم تكن الولايات المتحدة راغبة بعد في ممارسة دور القوة المهيمن، ولكن عندما سيطرت على العالم، وتحركت بسرعة لإعادة الاستقرار داخل النظام الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، كما يتوهم مناصرو الليبرالية الأمريكية ودعاة الهيمنة، لم تكن مشاريع أمريكا خيرة أو إنسانية ولو بمقدار، حيث أطلقت مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين والأحلاف الدفاعية مثل، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما جعلها تقود العالم ضمن ما بات يعرف بمصطلح «السلام الأمريكي». لكنه لم يكن سوى برنامج ربحي على الدوام. التدمير يؤدي إلى إعادة الإعمار، التدمير الاقتصادي والاجتماعي للدول القومية ذات السيادة. وبطبيعة الحال الدائنون موجودون هناك للحصول على الثروة الحقيقية. هذا ما حصل منذ مشروع مارشال بعد الحرب العالمية، وهو متواصل في استراتيجية صناع السياسة الأمريكيين حتى اليوم. وما يحدث في أوكرانيا أو غيرها يعكس هذه الأهداف بشكل واضح. لقد اختصرها جورج كينان بالقول: اليوم ليس بعيدا عندما يتعين علينا التعامل مع مفاهيم القوة المباشرة، وكلما قلل من انزعاجنا من الشعارات المثالية، كان ذلك أفضل. وليس لدى المحافظين الجدد أي نية لكسب الحرب، وهدفهم هو تدمير البلدان.
كاتب تونسي