المنطقة العربية تحكمها العواطف والمواقف الآنية، وكثيرا ما يغيب فيها التفكير العميق بعيد المدى. وهي أفضل مسرح تجد نظريات من قبيل «عدو عدوي صديقي» و«صديق عدوي عدوي» جدواها. لهذا ليس هناك أسهل من إصدار الأحكام والتراجع عنها في هذا الجزء من العالم.
روسيا ورئيسها حالة جديرة بالتأمل لمن أراد دراسة الرأي العام العربي وأسباب وأسرار تقلباته.
الرئيس فلاديمير بوتين ليس حليفا للعرب وللمسلمين ولن يكون، مهما حاول. وليس نصيرا للقضية الفلسطينية وللشعوب العربية عموما. لقد فعل بوتين بالشعب السوري وبالمسلمين في الشيشيان وغيرها، الكثير من الفظاعات. كذلك حال روسيا قبله وقبلها الاتحاد السوفييتي.
ورغم ذلك هناك اعتقاد في المنطقة العربية بأن الرئيس بوتين بطل وروسيا حليف مخلص. وُجد هذا الاعتقاد منذ الاتحاد السوفييتي، وخصوصا أثناء الحرب الباردة. ثم استمر مع روسيا لاحقا، خصوصا عندما هيمنت الولايات المتحدة على العالم بداية الألفية الحالية وراحت تخوض حروبا على الجزء الجنوبي من العالم بلغت ذروتها في أفغانستان والعراق.
تكرس الاعتقاد أكثر مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا وزاد هذه الأيام تزامنا مع المحرقة الإسرائيلية في قطاع غزة مدفوعا بالتصريحات والمواقف الروسية غير المتعاطفة كثيرا مع إسرائيل عقب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تبدو التقلبات مفهومة إلى حد ما بالنظر إلى وجود المنطقة العربية في صلب الصراعات الدولية، بصفة مباشرة وغير مباشرة، منذ منتصف القرن الماضي. من الصعب أن تجد منطقة في العالم تعرّضت لكل هذا الكم من الأزمات ومعها الخيانات والخيبات. آخر فصول هذه المرارة يعيشها العرب على المباشر هذه الأيام وهم يشاهدون كيف أحرقت إسرائيل غزة وأبادت البشر والحجر بتشجيع فجّ من الإدارة الأمريكية غير مكترثة لفداحة الخسائر في الأرواح الضحايا وصرخات العالم كله.
لكن «الحيرة» من «المعضلة» الروسية ليست حكرا على العرب ومشاعرهم المتقلبة النابعة من خيباتهم. الحكومات الغربية في حيرة هي الأخرى وتخشى من أن المنطقة العربية تنجر شيئا فشيئا إلى المعسكر الروسي. موقع «ناشونل إنترست» الذي يعبّر عن تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة (يتبع مركز ريتشارد نيكسون للسلام والحرية) نشر الخميس الماضي تحليلا عبّر فيه عن الخشية من أن المنطقة العربية بحكامها وشعوبها تجنح نحو المعسكر الروسي، محذّرا من عواقب ذلك. يوضح التحليل أن أغلب الدول العربية اليوم أقرب إلى روسيا منها إلى الولايات المتحدة، لكن الحالة المصرية أكثر وضوحا والأفضل لإثبات ما يعتبره الغرب تغلغلا روسيا.
مهما كانت التغييرات العميقة التي ستصيب المنطقة بعد المحرقة الإسرائيلية في غزة، لا يمكن العودة إلى ما قبلها، ولا يمكن للقادة وصنّاع الرأي في الولايات المتحدة والغرب عموما أن يحلموا بالعودة إلى وضع طبيعي وكأن شيئا لم يكن
ويسرد معلومات مفصلة لتعزيز وجهة نظره منها أن المخابرات العامة المصرية، وبعد زيارة سيرغي لافروف إلى القاهرة الصيف الماضي، أوعزت لوسائل الإعلام المصرية بتغليب السردية الروسية في تغطيتها للحرب في أوكرانيا. كما وجهتها بالعودة إلى وسائل الإعلام الروسية مثل «روسيا اليوم» في تعاملها مع الأخبار المتعلقة بروسيا.
يعتبر التحليل أن مصر تشجعت بتقارب بعض الدول الخليجية مع روسيا، وتحديدا السعودية والإمارات، فأوكلت لإعلامها مهمة الترحيب بروسيا في المنطقة ولم يُقصّر في ذلك.
لكن تحليل «ناشونل إنترست» يكتفي بالتوصيف ولا يخوض في أسباب انجراف منطقة جغرافية كاملة، بحكامها وشعوبها، وفق قوله، إلى المعسكر الروسي رغم أن اليد العليا فيها كانت تقليديا للولايات المتحدة. السبب هو السياسات الأمريكية وبدرجة أقل الأوروبية. وقرينة الشك التي استفادت منها واشنطن والعواصم الغربية الأخرى إلى غاية السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 سقطت في السابع منه وإلى الأبد عندما اختارت أمريكا وأوروبا معسكر إبادة على غزة.
ولأن المنطقة العربية لا تملك أدوات استقلالها وحماية نفسها، كان من الطبيعي أن تبحث عن بديل ولو مؤقت يخفف عنها مرارة وألم اختيار حلفائها التقليديين معسكر إسرائيل.
مهما كانت التغييرات العميقة التي ستصيب المنطقة بعد المحرقة الإسرائيلية في غزة، لا يمكن العودة إلى ما قبلها، ولا يمكن للقادة وصنّاع الرأي في الولايات المتحدة والغرب عموما أن يحلموا بالعودة إلى وضع طبيعي وكأن شيئا لم يكن.
الإبادة التي تتعرض لها غزة ليست فعلا إسرائيليا محضا، اليد الأمريكية والأوروبية شريكة فيها بفعالية تؤسس لمئات السنين من الأحقاد والضغينة. ورغم اعترافي بغلبة العواطف والمواقف الآنية على المنطقة شعوبها، أرى أن محرقة غزة الحالية مختلفة عن كل ما سبقها، ومن الصعب التغلب عليها بقرارات معينة وسياسات محددة مهما كانت سخيّة ومغرية، لأن المحرقة الإسرائيلية اليوم تستهدف الإنسان الفلسطيني ومن غير الممكن ترميم الخراب الذي تتسبب فيه بمخططات سياسية ومشاريع بنى تحتية.
على الحكومات في الغرب أن تأخذ في الحسبان أيضا أن فوائد الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل لا تجنيها روسيا وحدها، وإنما ما بات يُسمى «غلوبل ساوث» (جنوب العالم) قياسا إلى الغرب الرأسمالي التقليدي، وهو معسكر كان موجودا لكن حرب إسرائيل على غزة ستُعجل في تشكّله بوضوح أكثر.
وسط هذا التآكل في الرصيد الأخلاقي والسياسي للغرب، من الطبيعي أن يبرز من يملأ الفراغ حتى لو كان مثل الغرب. والدول والفضاءات التي لا تملك سيادتها، كما هو حال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مجبرة على المفاضلة بين الأسوأ والسيئ.
كاتب صحافي جزائري