قال ديفيد ريمنيك رئيس تحرير مجلة «نيويوركر» في مقال نشرته الصحيفة يوم 28 أغسطس/آب 2022، «لقد آن الأوان لتتويج سلمان رشدي بجائزة نوبل». ريمنيك لم يكن في واقع الأمر الوحيد الذي عبّر عن إيمانه بأحقية سلمان رشدي في الفوز بهذه الجائزة الأدبية المرموقة. فبعد محاولة اغتيال رشدي في يوم 12 أغسطس 2022، تعالت أصوات العديد من الكتاب والنقاد والمثقفين في أمريكا ومناطق أخرى في العالم، معبّرة عن تأييدها ترشيح الكاتب البريطاني واقتناعها بأن الوقت حان أخيرا لتكريمه. فهل سيكون سلمان رشدي أول كاتب هندي المولد يفوز بجائزة نوبل بعد روبندرونات طاغور، الذي حصل عليها في عام 1913 وكان أول كاتب من بلاد الشرق يفوز بمثل هذه الجائزة؟ وما العوامل التي ترشّح رشدي للفوز بأكبر جائزة في الدنيا من بين كل أدباء الشرق يا ترى؟
الحياة تحت التهديد
عانى سلمان رشدي من ويلات التهديد الدائم لعقود طويلة. بدأ مسلسل الرعب هذا في 14 فبراير/شباط 1989، عندما أصدر آية الله روح الله الخميني المرشد الأعلى لإيران، فتوى بقتله عقب نشر روايته الرابعة بعنوان «آيات شيطانية» في سبتمبر/أيلول 1988. أثار تصوير النبي محمد سخط الجماهير في العالم الإسلامي، ما أدى إلى تخريب المكتبات، وحرق الكتب، وحظر الرواية، فضلا عن اندلاع مظاهرات عارمة مناهضة لرشدي في أنحاء المعمورة. ولكي نفهم مستوى التهديد الذي رافق رشدي مدى الحياة، علينا أن ننظر إلى مقياس التهديد المعروف عادة باسم «تقييم التهديد الشخصي» وهو عملية تقدير الخطر المحتمل على سلامة فرد ما، فقد حددت الشرطة البريطانية مقدار التهديد الذي يواجهه رشدي بالمستوى 2، أي أقل بدرجة واحدة فقط من مستوى الملكة. مقياس الأجهزة الأمنية البريطانية يؤكد المخاطر الجسيمة التي يواجهها، والتي تجسدت في عملية الطعن في نيويورك. كان ذلك في يوم 12 أغسطس 2022، أثناء حضوره مؤتمرا أدبيا في تشوتوكوا، شمال ولاية نيويورك. كان رشدي آنذاك على وشك إلقاء محاضرة عامة عندما اقتحم المعتدي المسرح وهو يحمل سكينا وهاجمه هجوما وحشيا. تعرّض رشدي في هذا الاعتداء لـ12 طعنة، أصابته في أماكن متفرقة من جسده، بما في ذلك وجهه ورقبته. ففي مقابلة مع صحيفة «الباييس» الإسبانية، كشف وكيله الأدبي، أندرو وايلي، عن طبيعة إصاباته العميقة، مؤكدا وجود ثلاث إصابات خطيرة في رقبته، وتلف شديد في أعصاب ذراعه ما أدى إلى عجز إحدى يديه، بالإضافة إلى ما يقرب من 15 إصابة أخرى على صدره وجذعه. وتشير التقارير كذلك إلى أن رشدي فقد 40 رطلاً من وزنه منذ الحادث وفقد البصر بشكل دائم في إحدى عينيه.
كان من نتائج هذا الاعتداء الشنيع حصول إجماع متزايد في صفوف الكتاب والنقاد والمثقفين على أحقية سلمان رشدي في نيل التكريم العالمي الذي طال انتظاره.
حرية التعبير
كان من نتائج اعتداء نيويورك أيضا أن أعاد فتح جراح قديمة لم تلتئم بعد، فاعتداء نيويورك ذكّر العالم بأهوال الفتوى القديمة، وأشباح التهديد التي ما برحت تنتاب حياته وكوابيس الفزع التي ما انفكت تعكر منامه. اعتداء نيويورك الذي كاد أن ينهي حياة رشدي، ذكّر العالم أيضا بأن الفتوى القديمة لا تهدد رشدي فحسب، بل مبادئ حرية التعبير والديمقراطية والعالم الحر برمته. برفضه الرضوخ للتهديد وصموده أمام الأخطار، أصبح رشدي نموذجا للشجاعة ورمزاً من رموز حرية التعبير في العالم، وهو ما يرشحّه أيضا للفوز بجائزة نوبل. قال رشدي واصفاً ما شعر به بعد الفتوى: «كان العالم يصرخ في أذني، غير أني رفضت الانحراف عن سبيلي والخروج عن مسار الإبداع. فقد قلت في نفسي وألححت إلحاحا، لا بد أن تبقى ذلك الكاتب الذي كنت دائما. واليوم إن عرضت كتبي بتسلسل زمني على شخص لا يعرف شيئا عن حياتي، لا أعتقد أن يقول القارئ، لقد حدث شيء فظيع في عام 1989 كان له عميق الأثر في جميع الكتب من بعده. أعتقد أنه سيرى أدبا متناسقا غير منقطع».
رد فعل رشدي الإيجابي على الفتوى يؤيّده كثيرون على منوال الروائية الأسكتلندية أليسون لويز كينيدي التي قالت لـ»بي بي سي»: «رد فعل رشدي على الفتوى كان دائما إيجابيا للغاية. لقد سمح له بإدراك أن خير ما تصنعه هو أن تستمر في الكتابة وتستمر في التحدث وتستمر في فعل شيء ما، وتفعل ذلك طالما أنك قادر على فعل ذلك. رشدي نقيض الصمت. والكتّاب نقائض الصمت. إذا كنت تريدنا أن نصمت، فأنت تريدنا أن نموت».
إنجازات أدبية عالمية
حصل رشدي على العديد من الجوائز والأوسمة عن أعماله الأدبية. أشهر أعماله روايته الثانية «أطفال منتصف الليل» الصادرة عام 1981. فازت هذه الرواية بجائزة بوكر وحصلت على جائزة «بوكر أوف بوكرز» عام 1993. «أطفال منتصف الليل» رواية واقعية متخيلة أحسن من خلالها رشدي دمج العنصر الواقعي بالخرافي والخيالي بأسلوب واقعي مفصل ومشوق فريد من نوعه. تحكي الرواية قصة سليم سيناي، البطل الذي ولد عند استقلال الهند عن الحكم البريطاني، يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، تغطي الأحداث الكبرى في تاريخ الهند الحديث. ومن الأعمال المهمة الأخرى لرشدي «آيات شيطانية» (1988) الذي أثار عاصفة جدل وموجة غضب وزوبعة من المظاهرات والاحتياجات. وله أعمال روائية أخرى أبرزها: «هارون وقصص البحر» (1990) ويروي مغامرات شاب يدعى هارون يسافر إلى عالم خيالي يعرف باسم «قصص البحر» لإنقاذ والده؛ و«الأرض تحت قدميها» (1999) عن حياة فينا أبسارا وأورموس كاما وأميد ميرشانت، الذين يشكلون فرقة موسيقية تُدعى «الثمرة الغريبة» ويسعون للوجود في عالم الموسيقى المتغير، والكتاب إعادة تصوير معاصر لأسطورة «أورفيوس وإيوريديس». إنجازات رشدي التي تمتاز بتفردها الأسطوري والواقعي، والحداثة السردية التي تتجاوز الأنماط التقليدية، تجعله من أبرز المرشحين للفوز بالجائزة المرموقة.
الكتابة خارج الحدود
ومن ميزات رشدي قدرته على التفكير والكتابة خارج حدود الأوطان، وتجاوز الحواجز الجغرافية والقيود الثقافية، وهي من أسباب نجاحه العالمي. نراه من خلال أعماله يجول البلدان والقارات، سعيا لتقريب وجهات النظر وجمع شمل الشعوب والأمم وتوحيد الثقافات، متجاوزا حدود القومية والثقافات الفردية الضيقة، ساعِيا لبناء عالم متنوع منسجم يجسده التنوع الثقافي للمجتمع البريطاني. رواياته روايات بلا حدود تتعدى إطار شبه القارة الهندية، تطبعها ثيمات عالمية من تصادم ثقافي، وهجرة ومنفى، وتغرب، وأزمة هوية. ويلقي رشدي في أعماله الضوء على التاريخ والسياسة، مشيرا إلى الأحداث التاريخية والاضطرابات السياسية وتأثير الاستعمار وحركات الاستقلال ونضالات ما بعد الاستعمار، وتأثير كل ذلك في حياة الأفراد والمجتمعات. ويتجلى تركيزه على مسائل العرق والهجين والتنوع الثقافي في روايته الثالثة «تنهيدة المغربي الأخيرة» (1995) التي تلعب أدوارها شخصيات من خلفيات عرقية مختلطة، مما يعكس طبيعة الهند متعددة الأعراق والثقافات. كما يتناول رشدي في مقالاته الأطروحات الدولية والقضايا العالمية مثل الدين والهوية الثقافية والإرهاب.
اجتياز اختبار الزمن
واللافت للانتباه في سيرة رشدي عدم اكتراثه بالكتابة قصيرة الأمد، أو النجاح الفوري المؤقت. فما يصبو إليه هو أدب دائم قابل لاجتياز اختبار الزمن والتأثير في الجماهير عبر الأجيال والارتقاء إلى منصة الخلود، وهذا ما أكده رشدي غير مرة مستشهدا برواية «أطفال منتصف الليل» التي نشرها عام 1981 وما زالت تشد أنظار الجماهير إلى يومنا هذا. قال في إحدى المقابلات: «أدباء الخيال الشعبي يبحثون عن مؤلفات تثير اهتمام القراء ومتعتهم فورا، لكن الكتب التي أميل إليها كقارئ وأسعد بتأليفها ككاتب هي الكتب التي تصمد أمام اختبار الزمن.. وإني أسعد كل السعادة اليوم وأنا أشاهد على سبيل المثال رواية «أطفال منتصف الليل» تشد الأنظار بعد مرور 34 أو 35 عاما على نشرها، ويرتبط بها أشخاص لم يكونوا قد ولدوا عند صدورها».
لم يخطئ رشدي في حكمه، فمؤلفاته ـ بما في ذلك تلك التي رأت نور الحياة في أواخر القرن الماضي – تحظى باهتمام القراء، وتُدرس على نطاق واسع، وتُدرج في المناهج الجامعية، وتُعرض للمناقشة في الأوساط الأدبية، ما يدل على جاذبيتها الدائمة. اجتياز اختبار الزمن وتجاوزها الحواجز الثقافية واللغوية، وترددها بين قراء من خلفيات متعددة وفترات زمنية مختلفة، بلا ريب من بطاقاته الرابحة عند ترشحه للجائزة العالمية.
مصدر دائم للإلهام
تأثير سلمان رشدي يتجاوز كل القيود ويمتد إلى أبعد الحدود، وها هو رشدي اليوم مصدر دائم للإلهام ليس للقراء فحسب، بل أيضا للكتاب والفنانين في كل أنحاء الدنيا. وعلى عكس معاصريه، يتحدى رشدي الحدود الأدبية، ويغامر بلا تردد أو وجل في أنحاء غير مستكشفة من عالم الرواية، معبِّرا عن أصوات أولئك الذين يعيشون في الشتات، مدافعا عن الحريات الفردية، محتفيا بالتعددية الثقافية.
موهبة رشدي في عالم السرد، ومساهماته الكبيرة في الأدب، والتزاماته الثابتة بحرية التعبير، عززت مكانته المشرفة في المجال الأدبي، وأثارت أصوات أعداد متزايدة من الكتاب والمثقفين البارزين، ما فتئوا يدافعون عن ترشحه لجائزة نوبل باعتباره رمزا للتحدي ضد أولئك الذين يسعون إلى إسكات الكلمة المكتوبة. وإن طبع مسيرته الأدبية الطويلة فوزه بالعديد من الجوائز المرموقة، فإن قدرته على جذب جماهير من خلفيات متنوعة ومن حقب زمنية مختلفة هي ما يميزه حقا عن بقية أدباء عصره. ويظل السؤال قائما: هل سيكلل إسهامه في الأدب العالمي وصموده في وجه التهديد والعدوان ونضاله في سبيل الحرية، بالتتويج بجائزة نوبل قريبا؟
كاتب جزائري