لأكثر من عقد من الزمن وإسلاميو المغرب يقدمون نموذجا نوعيا في العالم العربي في تطبيق الديمقراطية الداخلية والانضباط للعمل المؤسساتي، واجتراء تجربة التمايز بين الدعوي والسياسي، ثم جاءت تجربة تدبيرهم للشراكة في الحكم مع المؤسسة الملكية لتكرس وضعية استثناء صنعها إسلاميو المغرب بصيغة الإصلاح في إطار الاستقرار، فشكلت تجربتهم، بالإضافة إلى تجربة تونس نموذجا في استمرارهم في العمل من داخل مربع السلطة وتجنب الاشتباك مع السلطة السياسية مع الحفاظ على استقرار البلد وتجنيبه التداعيات السلبية التي انتهت إليها تجارب دول الربيع العربي.
بيد أن هذا النموذج الذي بدأ يكتسب مقومات الإلهام بالنسبة إلى عدد من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، دخل غذاة فترة ما يعرف بـ»البلوكاج الحكومي» مرحلة اختبار لاسيما بعد تحقيق الإسلاميين نتائج مبهرة في انتخابات 2015 الجماعية والجهوية وانتخابات 2016 البرلمانية، وبدا وكأن موازين القوى اختلت لصالحهم، وأن معادلة التوزان السياسي- التي ظل النظام السياسي يرعاها ويتدخل في كثير من الأحيان لتثبيت عناصرها- فقدت أمام الفراغ السياسي الذي ملأه حزب العدالة والتنمية بالكامل في غياب منافس سياسي قوي. جواب الدولة، التي ظلت تعيش لمدة سنتين مضت أزمة نسق سياسي، لم يجد غير المخرج الدستوري، وتصدير الأزمة إلى ملعب الإسلاميين، وذلك بخلق شروط تعرقل تشكيل حكومة بنكيران، والتمهيد لإعفائه، وتغيير موازين القوى من بوابة دستورية تعتمد صلاحية الملك في التسمية (التعيين) بعد اقتراح رئيس الحكومة للتشكيلة الحكومية، لترمي بالأزمة في ملعب الإسلاميين، وتأخذ شكليها السياسي والتنظيمي.
ولئن نجح إسلاميوالمغرب في تقبل صدمة إعفاء بنكيران زعيم الانتصارات الانتخابية، واستساغة تعيين سعد الدين العثماني بدلا عنه من غير مسوغات سياسية مقنعة، إلا أنهم لحد الساعة لم يستطيعوا أن ينتجوا أي جواب مقنع بخصوص التمظهر السياسي والتنظيمي لورطتهم.
فأما التمظهر السياسي لورطة الإسلاميين، فيتمثل في الخلاف الحاد داخل قياداتهم وقواعدهم حول طريقة تشكيل حكومة العثماني، وقراءة الظرفية السياسية الدقيقة التي حصلت فيها هذه التحولات.
الفريق الأول القريب من القيادات التي مارست التفاوض السياسي، يرى أن ما حصل عند تشكيل حكومة سعد الدين العثماني لا يختلف كثيرا عما فعله عبدالإله بنيكران عند تشكيله لحكومة 2011، وعند تفاوضه لتشكيل حكومة النسخة الثانية في 2013، ويزيد هذا الفريق حجة أخرى، في كون المتغيرات الدولية تدفع لاعتبار ما قام به العثماني إنجازا تاريخيا، بحكم بروز تحولات دولية تسير في اتجاه معاكس لتجربة الاندماج السياسي للإسلاميين.
الفريق الثاني القريب من أسلوب بنكيران في ممارسة السياسة، يرى أن ما حدث يعتبر زلزالاسياسيا بكل المقاييس، وأن الحزب لم يحدث ذلك التقدم السياسي والانتخابي المميز بدعم من جميع قوى المجتمع، وبممانعة شديدة لتدخلات للدولة لتغيير مزاج الناخبين، ليأتي في الأخير ليتفاوض مع السلطة بمنطق يعاكس نتائج الانتخابات وإرادة الناخبين، بل وليغير منهجية بنكيران المصادق عليها في المجلس الوطني في تشكيل الحكومة، تلك المنهجية التي ضحى من أجلها برئاسة الحكومة من أجل أن يبقى وفيا لأصوات الناخبين وإرادتهم. ويزيد هذا الفريق حجة أخرى، ويرى أن الطريقة التي تشكلت بها الحكومة تؤشر على تغيير مفصلي في موازين القوى لجهة فرملة الخط الإصلاحي، والتأشير على امتداد للسلطوية وانتشارها وإضعاف مؤسسة رئيس الحكومة وتحويل االقرار السياسي إلى جهة أخرى غير مؤطرة بالمحاسبة والرقابةالبرلمانية .
أما التمظهر التنظيمي لورطة الإسلاميين، فيتمثل في العلاقة المفترضة بين الحزب والحكومة. في التجربة السابقة لعبد الإله بنكيران، تم إدماج كل الوزراء في قيادة الحزب، بالنحو الذي جعل القيادة تقود التجربة بمعادلة متوازنة تجمع بين خط نضالي مقاوم وحكومة إصلاحية ممانعة للضغوط والممانعات الصادرة عن الوبيات الداخلية. الورطة التنظيمية نشأت بفعل التباين الحاد في تصور وظيفة الأداة الحزبية، بعد أن ظهرت بوادر التأثير في القرار الحزبي، ومحاولة صناعته خارج مربع المؤسسات القيادية، إن في شكل تفاوضات عليا، أو في شكل سوءفهم ناتج عن الاشتباك الناتج بين صلاحيات رئيس الحكومة وصلاحيات قيادة الحزب التي ينتمي إليها. وبفعل هذه الورطة، يثور الجدل داخل قيادة الحزب وقواعده حول استمرار صيغة التطابق القديمة التي تقتضي أن يكون رئيس الحكومة قائدا بالضرورة للحزب حتى يتم تجنب الازدواجية، وبين ظهور متغيرات سياسية صارت تتطلب التمايز وممارسة الحزب لدور الترشيد وحماية القرار الحزبي وتحصين التجربة الإصلاحية برمتها.
تمظهرهذه الورطة على المستوى التنظيمي برز في شكل خيارات تنظيمية بعضها يدعو لتغيير مادة في القانون الأساسي يصبح بإمكان عبدالإله بنكيران – بموجب تعديلها ـ أن يرشح للأمانة العامة للحزب بعد أن قضى ولايتين مكتملتين، وبعضها الآخر لا يرى ضرورة في ذلك، وأن ذلك يعتبر بمثابة تغيير منهجية الحزب التي أرساها بنكيران في التطابق بين الحكومة والحزب، والتمهيد للشخصنة، والمس بالصورة الديمقراطية للحزب.
غير أن هذا الخلاف الحاد الذي يرسم ورطة الإسلاميين السياسية والتنظيمية، يلفت إلى أزمة أخرى عند الفريقين، تتمثل في تغييب الجواب السياسي عن طبيعة المرحلة وموقع الأداة التنظيمية في التفاعل مع المتغيرات السياسية والحقوقية المتسارعة، إذ انشغل الفريق الأول بسؤال استمرار التجربة الإصلاحية تقديرا منه ألا شيء تغير في المشهد السياسي، وأن حكومة سعد الدين تتمم عمليا ما قامت به حكومة بنكيران، بينما انشغل الفريق الثاني بسؤال الممانعة وتقديم جواب تنظيمي لمنع النكوص والحفاظ على التموقع الديمقراطي للحزب من خلال الدعوة لدور قوي لابن كيران.
ففي الوقت الذي تدفع فيه قوى سياسية مسنودة جزئيا أوكليا بإرادة الدولة نحو المزيد من تغيير موازين القوى لفائدة امتداد السلطوية وإضعاف الحزب في مربع الحكومة وربما إسقاط التجربة، لم يقدم الفريقين معا أي جواب سياسي واقعي بخصوص التحولات التي تجري، بل لم يستطع أي فريق من الفريقين أن يظهر قدرة على استثمار عودة الحراك الاجتماعي (حراك الريف) وأزمة الدولة في التعاطي معه (تضخم المقاربة الأمنية وعودة الانتهكامات الحقوقية)، وتحويله إلى عائد سياسي يضمن تغيير موازين القوى لفائدة الخط الإصلاحي.
إن في شكل الدعوة الى تصحيح اختلالات ما بعد السابع من أكتوبر وتغيير تشكيلة الحكومة على النحو الذي يرفع الأزمة جزئيا عن الحزب ويرجعها من حيث أتت، أو في شكل ممانعة قوية من قبل الحزب من داخل الحكومة لاستعادة النفس الديمقراطي وعودة العافية للتأويل الديمقراطي للدستور.
لحد الساعة لا شيء من ذلك يحدث، فقيادات الحزب كما هي قواعده، ستدخل المجلس الوطني المرتقب انعقاده السبت 14 تموز/يوليو، لا تعرف حتى إن كانت دورة هذه المجلس برزنامة تنظيمية فقط أم سيحتل النقاش السياسي موقعه المركزي في تقييمالتجربةقبل الخوضفي خيارات التعاطي مع المستقبل.
وحده الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ومنذ إعفائه، من ظل يركز على مخاطرالأزمة وتداعياتها السلبية على تماسك الحزب، وينبه إلى الأسس المرجعية التي قامت عليها تجربته ويدعوللتفكيرفي المستقبل وبالتحديد خيارات الخروج من الورطة، دون أن يتورط إلى اليوم في أي اصطفاف.
لكن، مع هذا التوجيه المعياري، لا يلوح في الأفق أي سيناريو واضح سوى تطمينات عامة من طرف القيادات بأن حزبهم محصن ضد الانقسام، وأن مرجعيته والأسس التي قام عليها تمنعه من السقوط في هذا السيناريو، لكن المهم اليوم، ليس الجواب عن احتمالات أو سيناريوهات ترتبط بمنع السيئ أو الأسوأ، وإنما الأهم الجواب إمكانية الاستدراك واستعادة المبادرة وتحصين التجربة الإصلاحية وإحداث تعديل نوعي في موازين القوى على الأقل حتى يرجع الوضع السياسي إلى ماكانت عليه تجربةعبد الإله بنكيران قبل الانتصارات الانتخابية المبهرة.
باحث مغربي
بلال التليدي