هل يكون السيسي ‘بوتين مصر’؟

ربما لا يجادل أحد في توقع فوز عبد الفتاح السيسي برئاسة مصر، لكن السؤال يظل قائما عن الذي يأتي من بعد، وعن هوية السيسي حين يصبح رئيسا، وعن اختياراته في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، وهل نكون بصدد جمال عبد الناصر آخر كما يوحي حماس قواعد شعبية واسعة؟ أم نكون بصدد رجل أكثر عملية وبراغماتية على طريقة فلاديمير بوتين في التاريخ الروسي المعاصر؟
بالطبع لا يتصور أحد أن تتطابق صورة السيسي مع صورة جمال عبد الناصر، وإن ظل الإيحاء المشترك واردا، فقد تغيرت الظروف والملابسات بشدة، والتاريخ لا يعيد نفسه، وإن تشابهت حوادثه، ولو عاد جمال عبد الناصر نفسه افتراضا، فسوف تكون له تطبيقات مختلفة عن صيغة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وهي الفترة ذاتها التي ولد فيها السيسي، وتكون فيها وعيه الأول، وارتدى فيها زيه العسكري الأول خلال مرحلة الدراسة الثانوية، وتظل ملامحها حية في ذهنه، مؤثرة في وجدانه. فهو من جيل الوطنية المصرية على طريقة جمال عبد الناصر، ويؤمن أن مصر كانت تمضي في طريق نهوضها السليم حتى النصر في حرب أكتوبر 1973، ثم جرى الانكسار بعدها، ووقعت مصر ضحية الهزيمة الحضارية الشاملة، وانتهت إلى انحطاط تاريخي. ‘وقعت من قعر القفة’ في سباق السلاح والتصنيع والتكنولوجيا والتقدم، ‘وقعت البلد في الثلاثين سنة الأخيرة’ بنص تعبير السيسي، وهو ما قد يعني ـ بالضرورة ـ توقع سلوك مختلف من السيسي حين يصبح رئيسا. فهو لا يريد أن يصبح مبارك معدلا، وهو يحتقر بشدة عجز وفساد ودونية جماعة مبارك، لكن السؤال المشروع يطل برأسه، ويمكن صياغته على النحو البسيط التالي، وهو إلى أي مدى تحدث القطيعة في اختيارات السياسة والاقتصاد؟ وهل نكون بصدد ثورة دراماتيكية بانحياز وطني واجتماعي صريح على طريقة جمال عبد الناصر؟ أم أننا سنكون بصدد إصلاحات جزئية ترمم النظام نفسه، وتعطيه دفعات من كفاءة يفتقدها، وقدرا أفضل من الرضا العام، وخلق ‘بيئة شعبوية’ من حول السياسات نفسها؟
توقع سلوك ‘براغماتي’ في الاقتصاد، و’انضباطي’ في الإدارة، قد يغري بقدر من المشابهة بين طريقة السيسي المنتظرة، وطريقة بوتين في روسيا ، ومع الأخذ في الاعتبار وجود اختلافات بين مصر وروسيا، لكن المدار العام لنكبة البلدين فيه القدر المعقول من التشابه، فقد كانت مصر هي درة التاج في المشروع القومي على طريقة جمال عبد الناصر، وكانت روسيا ـ في صورة الاتحاد السوفييتي ـ هي درة التاج في المشروع الاشتراكي العالمي على طريقة فلاديمير إليتش لينين. وفيما بدت كبوة مصر متدرجة، واتصلت إلى القاع على مدى أربعين سنة بعد حرب أكتوبر 1973، فإن كبوة روسيا جرت بطريقة متسارعة جدا، ولم تستغرق سوى عشر سنوات بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين، فقد انفرط عقد العالم الروسي سريعا، وفقدت روسيا نفوذها ‘السوفييتي’ في شهور، وانفصلت عنها جمهوريات الاتحاد السوفييتي الآسيوية والأوروبية، وجرى نهب ثرواتها وأصولها العامة في زمن أسرع بكثير مما جرى في مصر، وكان بوريس يلتسين ـ المخمور دائما ـ هو العنوان الجديد لروسيا الضائعة، تماما كما ظل مبارك عنوانا على الضياع المصري، وكان بوتين ـ رجل الكي .جي . بي ـ ممن عينهم يلتسين إلى جواره، في ديوانه الرئاسي، وفي وظائف أمنية عليا، ثم في رئاسة مجلس الأمن الفيدرالي الروسي. وفيما بدا كواحدة من صور’مكر التاريخ’، جرى تعيين بوتين في أواخر 1999 كقائم بأعمال الرئيس، وبقرار من يلتسين نفسه، والذي اختفى تماما من المشهد بصورة فجائية، وكأنما ابتلعته ماسورة صرف صحي. كان الانقلاب سريعا ومباغتا وسلسا، وأحل بوتين كرجل قوي محل يلتسين كرئيس مريض، ذاهل عن الدنيا وما فيها، ثم أصبح بوتين رئيسا بالانتخاب من سنة 2000 إلى 2008، ثم ترك الرئاسة صوريا للدوبلير ميدفيديف حتى 2012، ظل خلالها في وضع ‘القيصر’ كرئيس وزراء لروسيا، ثم عاد إلى الرئاسة بعد انتهاء فترة ميدفيديف، ونجح في صياغة دور روسي مختلف عن الصيغة السوفييتية القديمة، فلم يعد من خلاف أيديولوجي بين موسكو وواشنطن، بل صار الخلاف على مواضع النفوذ في الفضاء السوفييتي السابق، ثم في صياغة نظام عالمي متعدد الأقطاب، أنهى سيرة القطب الأمريكي الواحد المسيطر، وتفاعل بكفاءة مع متغيرات الدنيا في سباقات السلاح والاقتصاد، والتي نزعت عن أمريكا صفة ‘القوة العظمى’ بالألف واللام وجعلتها مجرد ‘قوة عظمى’ بـــين متعددين، وجعلت لروسيا مكانة المنازع الأول مع الأمريكيين، ليس في قوة الاقتصاد الذي تمضي الصين إلى سدة عرشه الدولي، بل في السلاح وفوائض المواد الخام من البترول والغاز الطبيعي بالذات، وكلها قوى كامنة كانت متاحة لروسيا حتى في أيام الرئيس المريض يلتسين. لكن بوتين هو الذي بلور القوة الروسية، وأخرجها من مخازن الصدأ، وجعل العالم يرقص متقطع الأنفاس على وقع أقدام الدب الروسي.
هل من تشابه منتظر لدور السيسي مع دور بوتين؟ تبدو القصة مغرية بالفحص والدرس، ولكن على نطاق إقليمي في حالة مصر، وليس على نطاق دولي كما هي حالة روسيا. فالسيسي ابن الدولة ومخابراتها، تماما كما بدأت حالة بوتين، و’مكر التاريخ’ حاضر في حالته، تماما كما في حالة بوتين. كان السيسي قائدا للمخابرات الحربية بقرار من مبارك نفسه، تماما كما كان بوتين رئيسا لمجلس الأمن الروسي بقرار من يلتسين، وكان بوتين يزدري هوان يلتسين معدوم الكفاءة، تماما كما يزدري السيسي مبارك وجماعته، وأعد السيسي ـ أيام مبارك نفسه ـ خطة طوارئ الجيش السرية للتحرك. كان التصور أن يجري التنفيذ في ايار/مايو 2011 مع إعلان ترشح جمال مبارك للرئاسة خلفا لأبيه المتداعي. وحين قامت ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، كان السيسي هو الذي كتب بخط يده بيان 2 شباط/فبراير 2011، والذي أعلن انحياز الجيش لمطالب ثورة الشعب وبقية القصة معروفة. وإلى أن تكرر ‘مكر التاريخ’، وصار السيسي وزيرا للدفاع بقرار من مرسي، ثم كان عزل مرسي بثورة الشعب الذي انحاز له السيسي. والمحصلة: أن السيسي ‘ابن دولة’ ساقته الأقدار إلى حكمها، وهو يعرف أنها دولة مهترئة ومتحللة وفاسدة، ولم يعد ممكنا أن تواصل الشوط دون إصلاحات جوهرية شاملة، وهو ما يغري بتوقع أن يلجأ السيسي لتكوين نخبته الخاصة، وأن يبتعد بحساب متدرج عن نخبة مبارك التي تتقافز حوله الآن، ودون أن يتماهى بالضرورة مع مطامح الثوريين في الشارع. فأولويات السيسي ـ على ما يبدو ـ هي للإدارة والاقتصاد، ولدمج صناعة السلاح مع الصناعات المدنية، ولخلق ديناميكية اقتصاد تزيد معدلات التشغيل والإنتاج، وتطوير نوع من تكامل المجمع الصناعي العسكري، وتشبيك قطاع دولة يبدأ من الجيش مع مبادرات لرأسماليين جدد، ومع ميل ظاهر لتصفية نفوذ مليارديرات جماعة مبارك الفاسدين، وزيادة الاعتماد على تدفق الاستثمارات الخليجية بالذات. وهو ما يعني ـ ببساطة ـ أننا قد نكون بصدد إجراءات براغماتية راديكالية لا تنقلب على النظام، بل تقدم له نخبة أكثر انضباطا وكفاءة، وهو نمط سلوك أقرب إلى صيغة بوتين في روسيا، والذي افتتح دوره الرئاسي بقمع تمرد الشيشان، تماما كما يبدأ السيسي بتصفية جماعات الإرهاب، وبزيادة قوة الداخل المصري اقتصادا وسلاحا، ودون خوض معارك متعجلة مع هيمنة الإدارة الأمريكية ومضاعفات ما تسمى’معاهدة السلام’مع إسرائيل، بل الاعتماد على خطوات تدريجية مدروسة بعناية، توازن التبعية المزمنة لأمريكا بعلاقات متطورة مع روسيا، وتبني نفوذا لمصر يعتمد على كسب المحور الخليجي، وتعظيم قوة الجيش المصري الأكبر في المنطقة العربية، وإلى حدود قد تمكنه من تخطي قوة الجيشـــــين الإسرائيلي والتركي، وبما يمكن مصر من استعادة دورها المفقــــود في تحولات أقطار المشرق العربي. وهذه ـ مرة أخرى ـ صيغة أقرب لصيغة بوتين في روسيا، مع التسليم باختلاف ظروف كثيرة، وربما يفسر ذلك بعض ما جرى ويجري، فالإعجاب الشخصي يبدو متبادلا بين بوتين والسيسي. وكان لافتا أن الرئيس بوتين خرق تقاليد البروتوكول، وعبر مبكرا عن تأييده لترشح السيسي لموقع الرئاسة المصرية، برغم أن السيسي وقت زيارته لموسكو كان لا يزال وزيرا للدفاع، ولم يكن قد استقال، وأعلن ترشحه. وقتها غضبت الإدارة الأمريكية من تصرف وإشارة بوتين الروسي، وكأنها تخشى أن يصبح السيسي ‘بوتين مصر’ .

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أشرف الصباغ - روسيا:

    بوتين والسيسي بين الدستور العلماني والظرف الاقتصادي

    د. أشرف الصباغ

    عادة ما تلجأ وسائل الإعلام للمقارنات باستخدام الصور تارة وتوجيهها نحو تفسير بعينه، أو بترويج معلومات وأخبار مقتطعة من سياقها تارة أخرى، أو الدفع بإحصائيات وأرقام اقتراضية تارة ثالثة، وربما تدفع بكل ذلك من أجل تثبيت صورة إعلامية – سياسية يجري الترويج لها. وقد رأينا ذلك في الزيارة التي قام بها وزيري الدفاع والخارجية المصريين إلى موسكو، ثم اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فمواقع ووسائل إعلام الإخوان المسلمين كانت قطعا لا ترى ما يحدث على أرض الواقع، إذ ركزت على محاور صبيانية وتافهة من أجل حملة متهافتة تماما لا يروِّج لها إلا الصغار. أما المواقع الحكومية والرسمية فتاهت هي الأخرى بين الغث والثمين والتضخيم والمبالغة من جهة، والترويج لتكهنات غير بريئة من جهة أخرى إما بقصد أو بدون قصد.
    لسنا بحاجة إلى سرد تفصيلي لظروف روسيا ما بعد السوفيتية في ظل حكم مجموعة الليبراليين الشباب بقيادة بوريس يلتسين. ولكن المحطات الرئيسية بداية من ضرب يلتسين للبرلمان بالدبابات، ثم الصراع مع الحزب الشيوعي الذي انتهى تقريبا في انتخابات الرئاسة الروسية عام ١٩٩٦ بفوز زعيم الحزب الشيوعي جينادي زيوجانوف وتزوير نتائج الانتخابات لصالح يلتسين، ثم التلويح بحرب أهلية في حال صمم زيوجانوف علي نجاحه. في هذه الفترة، كانت الحرب الشيشانية الأولى قد نشبت، وتصور الغرب والولايات المتحدة أن تفتيت روسيا آت لا محالة بعد تفتيت الاتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو. وأصبحت منطقة شمال القوقاز الروسية، وعلى رأسها الشيشان وداغستان وأنجوشيا مرتعا للإرهابيين الذين توافدوا من الدول العربية وأفغانستان لمحاربة “الكفار الروس” وتحرير المسلمين من نير طغيانهم. وكانت الأموال والأسلحة تأتي من كل حدب وصوب، بينما رجل الأعمال اليهودي الروسي بوريس بريزوفسكي يشغل منصب نائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي ويشكل فريقا ضاربا مع ابنة يلتسين. وعلى الجانب الآخر يواصل اليهودي الروسي الثاني فلاديمير جوسينسكي بناء مملكته الإعلامية – المالية ويحصل على الجوائز والهدايا والعطايا من يلتسين شخصيا. وراحت مجموعة الليبراليين الشباب تدمر تاريخ روسيا وتشوهه بمناسبة وبدون مناسبة، بينما الإرهاب يصول ويجول في البلاد. إلى أن جاء الثلاثاء الأسود ١٨ أغسطس ٢٠٠٨ لتستيقظ روسيا على أزمة مالية – اقتصادية كادت تطيح بها فعليا.
    كل ذلك كان يدور وأفغانستان مشتعلة والعراق قاب قوسين أو أدني مما هو فيه الآن، والمحاولات مستمرة لتفتيت يوغسلافيا إلى أكثر من دولة وقيام الناتو بضرب صربيا. وفجأة أعلن يلتسين تخليه عن السلطة في الدقائق الأخيرة من يوم ٣١ ديسمبر ١٩٩٩ ليظهر على الساحة شخص كان بعيدا تماما عن دائرة المرشحين للرئاسة. هكذا ظهر فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين في ظروف قاسية وصعبة، ليواجه حربا شيشانية ثانية، على ما يشبه أنقاض دولة تبقت من أنقاض إمبراطورية. وكان انفجار الغواصة كورسك، ثم التفجيرات المتوالية لمباني السكنية في قلب العاصمة وعمق الأقاليم الروسية والهجوم على المدارس وقتل الأطفال واحتجاز الرهائن في المسارح والمستشفيات، وانتشار الجريمة المنظمة والعصابات والانفلات الأمني الذي لا يمكن مقارنته إلا بفترتين مفصليتين في حياة روسيا (الحرب الأهلية ١٩١٨- ١٩٢٢) و(الحرب العالمية الثانية (١٩٤١-١٩٤٥).
    كثيرون يدفعون بمقارنات إعلامية بين فلاديمير بوتين ابن المؤسسة الأمنية التي تحكم روسيا تاريخيا، وبين المشير عبد الفتاح السيسي ابن المؤسسة العسكرية التي تحكم مصر تاريخيا. ويسعى كل طرف من تلك الأطراف التي تروِّج لهذه المقارنات بجمع أكبر عدد من الدلائل لإثبات رأيه، ومن ثم ضرورة استعادة المؤسسة العسكرية لدورها التاريخي في مصر من أجل ضبط الأمور والحفاظ علي الأمن والدولة وإنقاذ البلاد من التفتت والصدامات الأهلية.
    من الممكن هنا أن نشير مبدئيا إلى تشابه عدد من الظروف بالفعل بين روسيا في تلك المرحلة، وبين ظروف مصر الآن. ولكن هناك جانبان مهمان للغاية في تلك المقارنات. الأول تشريعي يخص دستور الدولة، والثاني اقتصادي لعب دورا مهما في تثبيت أركان سلطة بوتين.
    إن روسيا تقوم على دستور علماني واضح يفصل بين الدين والدولة، ويحدد الوظائف والمهام لرئيسها وفروع السلطة فيها. وبالتالي قد يأتي يلتسين أو زيوجانوف أو بوتين أو ميدفيديف ثم بوتين على قاعدة دستورية تحدد له مهامه بدقة وتحد من احتمالات التعسف والاستبداد. وعلى الرغم من ذلك نجد سعي السلطة الدائم إلى الالتفاف على كل القواعد والأطر الدستورية والتشريعية لتثبيت أركانها وتحقيق مصالح أنصارها. ولكن في كل الأحوال يدور حوار هادئ تارة، وعنيف تارة أخرى بين السلطات ومساعي كل منها للتحكم وتوسيع النفوذ والسيطرة.
    لقد جاء بوتين في ظل ظروف اقتصادية (أسعار النفط والغاز) ساعدته أكثر بكثير من كل مجالات الاقتصاد ومصادر الدخل القومي الأخرى (حركة التصنيع والإنتاج وتطوير التكنولوجيا الرفيعة والخطط الاقتصادية الإنتاجية) علي تثبيت سلطته. ولم يكن هناك، في حقيقة الأمر، برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي يطرحه بوتين لاجتذاب الناخب الروسي. كان الأمر يتلخص فقط في نقطتين هامتين: الأولي، مكافحة الإرهاب. والثانية، الحفاظ على وحدة الدولة. وهما الأمران اللذان يتطلبان وفرة مالية واقتصادية حتى وإن كانت من بيع موارد الدخل القومي كخامات فقط، واستبدال شريحة طواغيت المال اليلتسنية بطواغيت مال جدد، وإحكام القبضة الأمنية.
    إن المشير السيسي يأتي اليوم على أرضية مشابهة تماما مع الفارق الذي يتمثل في “الدستور العلماني” و”الوفرة المالية – الاقتصادية” حتى وإن كانت شكلية. والأخيرة يمكن حلها بالقروض والمساعدات والهبات والعطايا التي عادة لا تكون بدون مقابل! فهل هناك إمكانية لوضع دستور علماني حديث يفصل ويحدد ولديه القدرة على الحياة في أرض الواقع؟ هل ستسمح الظروف الاقتصادية (التي ربما تكون شكلية) بضبط الحركة الاجتماعية لعشرات الملايين من المصريين؟
    إن إشكالية الدستور المصري الأخير ستشكل، شئنا أم أبينا، عقبة كبري ليس فقط في ما يتعلق بتطبيق القانون والمساواة أمامه، بل وأيضا في هوية الدولة المصرية التي يجب أن تحسم مرة واحدة وإلى الأبد، إلى حين تحدث التراكمات الطبيعية الضرورية لإجراء تغيير هنا أو تبديل هناك في الدستور يكون على أرضية واضحة ومحددة. فالدستور العلماني الواضح لا يرى فرقا بين شخصية أمنية أو عسكرية أو مدنية، لأن المعايير هنا هي معايير تشريعية بالدرجة الأولى، وممثلو السلطات هم موظفون يؤدون عملهم وفق الدستور والقانون. وبالتالي، فمدنية المجتمع، ومدنية الدولة، وتفعيل مواد الدستور والقانون تمثل ضمانات حقيقية بعيدا عن الطنطنة الإعلامية بشأن مواد الحريات التي قد لا يكون لها أي قيمة في ظل أرضية تشريعية مقفرة لا يمكن تفعيلها وتحيلنا بدورها إلى شكل من أشكال الفوضى والخلط الدائم بين “اللحم والذباب والصراصير”..
    ما هي إمكانية المشير السيسي (إذا افترضنا جدلا أنه الشخصية الأوفر حظا في انتخابات الرئاسة) في استبدال شريحة طواغيت المال من جناح جمال مبارك الذين يعملون بهدوء وروية دون أن ينسوا للمؤسسة العسكرية ضياع فرصتهم التاريخية في تأسيس “أرض الميعاد” واحتكار اللبن والعسل على أرض مصر؟ ما هي الإمكانيات المتوافرة لاستبدال شريحة طواغيت المال، سواء التابعة لمبارك أو للإخوان المسلمين؟ وما هي آليات التحكم في نشاطات القوى السلفية ليس فقط في علاقاتها الخارجية، بل وأيضا في نشاطاتها المالية الداخلية التي قد تكون مخالفة للقانون؟ هل هناك بالفعل بدائل، أم سيتم تدوير وتحوير تلك الشرائح لاستحداث شريحة قادرة على الحياة وتبادل الدعم مع السلطة السياسية لحين ظهور شرائح مالية – اقتصادية جديدة لها توجهات وولاءات محددة؟ وماذا عن نصيب المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، وهل يمكن تدوير شريحة منها، بشكل مباشر أو غير مباشر، لشغل ساحة المال والأعمال في مصر؟

  2. يقول أشرف الصباغ - روسيا:

    مصر وروسيا بين الواقع والخيال

    د. أشرف الصباغ
    تتواصل فعاليات الاحتفاء بما يطلق عليه الكثيرون “عودة روسيا إلى مصر” أو” عودة الدفء إلى العلاقات المصرية الروسية”. لا شك أن العلاقات المصرية – الروسية، ومن قبلها السوفيتية، تعرضت لهزات تاريخية طوال ٧٠ عاما، لأسباب كثيرة منها ما يقع على عاتق مصر، ومنها ما يقع على عاتق روسيا أو الاتحاد السوفيتي السابق. والآن، في ظل التحولات الدولية الواسعة وتعرض مصر والمنطقة إلى مخاطر وتهديدات متنوعة، بدأ تناغم سياسي بين القاهرة وموسكو، وخاصة بعد الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي، وإنهاء حكم طائفة الإخوان المسلمين لمصر.
    وقبل أن نبدأ الحديث عن العلاقات المصرية الروسية، أستشهد بعبارة قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشية زيارته لكوريا الجنوبية يوم الثلاثاء ١٢ نوفمبر الجاري. لقد قال بوتين بصراحة: “إن تأثير روسيا يرتهن قبل كل شيء بوضعها الاقتصادي بالطبع. فنحن وأنتم ضمن قائمة أكبر عشرين اقتصادا في العالم، وروسيا تشغل المركز الخامس بين أكبر عشرين اقتصادا في العالم، بينما تحتل جمهورية كوريا المركز العشرين. وهذا هو في واقع الأمر التأثير الأساسي”.
    بالعودة إلى مصر وروسيا، تبرز عدة تساؤلات من قبيل: ماذا يمكن أن تقدم مصر لروسيا، والعكس؟ ما هي الطاقة الاستيعابية لدى مصر في ما يتعلق بما يمكن أن تمنحه روسيا لمصر؟ وما هي حقيقة المواقف الروسية بالنسبة للشرق الأوسط عموما، وبالنسبة لمصر على وجه الخصوص؟ وما هي الملفات التي تهم موسكو؟ تساؤلات كثيرة تدور حول ما يسمى بعودة روسيا إلى المنطقة، وإلى مصر.
    لقد كانت روسيا في غاية الحذر مع بدء الانتفاضات في شمال أفريقيا. وكان من الواضح أنها تدرك أن تيارات الإسلام السياسي أو قوى اليمين الديني المتطرف تستخدم انتفاضة الشباب، وتستثمر الوضع العام اقتصاديا وسياسيا، وتتفهم رغبة الولايات المتحدة في عملية إحلال الإسلام السياسي محل النظم الاستبدادية التابعة لها. لذلك لم تتسرع روسيا لتؤيد هذه الانتفاضة – الثورة أو تلك. بل كانت هناك تصريحات حادة جدا وبخت الشباب الذي انتفض ضد الاستبداد والفقر والقهر، ولم تقترب من قوى الإسلام السياسي إلي أن تولى الإخوان السلطة عبر مندوبهم محمد مرسي في قصر الرئاسة.
    لقد التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرتين خلال عام واحد بالرئيس الإخواني محمد مرسي. اللقاء الأول كان في منتجع سوتشي، والثاني في جمهورية جنوب أفريقيا أثناء انعقاد قمة مجموعة “بريكس”. وقبل لقاءات مرسي ببوتين، كانت هناك وفود إخوانية تزور موسكو بين الحين والآخر بشكل سري أو نصف علني. وذلك بعد أن قام عصام الحداد بتهميش دور الخارجية المصرية وبدأ يقود هو شخصيا السياسة الخارجية لمصر. وعقب هذين اللقائين ظهر الكثير من التسريبات والشائعات والتكهنات، ولم يدل أي طرف بأي تصريحات رسمية تعكس تحولا ما في العلاقات. واقتصرت الأمور على تصريحات بروتوكولية ليس لها أي معنى على الإطلاق.
    الجميع الآن يتحدث عن ماضي العلاقات التليدة بين مصر وروسيا، ويحصي كل الوقفات التاريخية، بل ويعلن أن مصر وروسيا في خندق واحد. فعن أي ماض يدور الحديث، بينما المستقبل يتحول إلي حاضر في لمح البصر، ولا يلبث أن يتحول إلى ماضي؟! العالم يسير إلى الأمام بقوة. بينما نتحدث عن ماض كان في منتصف القرن العشرين، ولم يبق الكثير منه! فما هي العلامات الناصعة في تلك العلاقات منذ عام ١٩٧٢؟!! وماذا تعني عبارة “مصر وروسيا في خندق واحد”، وضد من بالضبط؟! إذن ماذا سنقول عن “سورية وروسيا”، أو “الولايات المتحدة وروسيا”؟ وماذا تعني مثل هذا العبارة التي تحرض على العنف والاستقطاب؟!
    إن روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، ولن تكون. وروسيا ما بعد السوفيتية هي دولة رأسمالية تنافس كل القوى الرأسمالية الأخري في السوق العالمية وفي المجالات الجيوسياسية والجيواقتصادية والأمنية. وهنا نود تكرار فكرة مهمة للغاية. فروسيا الآن تقود عملية التحضير لمؤتمر “جنيف – ٢” وتعمل بكل الطرق على لم شمل النظام السياسي مع قوى المعارضة الأخرى الداخلية والخارجية والمسلحة أيضا. وعلى الرغم من تعثر هذه المساعي بين الحين والآخر لأسباب كثيرة يمكن إرجاعها إلي النظام السياسي الرسمي تارة، وإلى قوى المعارضة تارة أخرى، وإلى الدول الداعمة للمسلحين والتنظيمات الإرهابية تارة ثالثة، إلا أن مساعي روسيا تسير قدما بعد أن استفاد الغرب، والولايات المتحدة، من خطوة تدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية التي اقترحتها روسيا لإنقاذ نظام الأسد، وأصبحت سورية خالية من مثل هذا السلاح.
    لقد تحدثنا في السابق عن توجهات روسيا بشأن ما يجري في الدول العربية، وخاصة التي قامت فيها انتفاضات ضد الاستبداد، وتمكنت تيارات اليمين الديني المتطرف من القفز عليها بدعم أمريكي. وفي الواقع نحن نعرف جيدا العلاقات الطيبة التي تربط بين روسيا وإيران. وبفضل روسيا تحديدا، تمكنت إيران من نقل ملفها النووي من منطقة الصدام العسكري إلي منطقة المساومات والمفاوضات. وعلى نفس النسق سار الملف السوري المعقد. فبعد أن كانت سورية علي حافة مواجهة عسكرية مع الغرب والولايات المتحدة وتركيا وقطر، تمكنت الدبلوماسية الروسية من تحويل الملف إلى ملف سياسي – دبلوماسي مقابل وضع بعض القيود على النظام السوري الرسمي، ومحاولات اجتذاب قوى المعارضة بكل أنواعها للجلوس مع بعضها البعض من جهة، ومع النظام من جهة أخرى.
    إن روسيا تميل إلى مثل هذا النوع من الحلول التي تحتمل أكثر من وجه، وهذه طريقة تعطي انطباعات جيدة بأن هناك حلولا، ولكن القضايا نفسها تظل لسنوات طويلة عالقة وبدون أي حل. وخلال عمليات المساومات والمفاوضات التي تستمر لسنوات، تنجح موسكو في استخدام كل هذه القضايا كأوراق سياسية أو أمنية أو اقتصادية مع منافسين كبار وقوى كبرى أخرى. هكذا يمكن أن نتصور نجاح “جنيف – ٢” أو على الأقل حلحلة الأمور بالنسبة لسورية، خاصة وأن إيران بدأت غزلا صريحا مع الغرب عموما، والولايات المتحدة على وجه الخصوص. بل وبدأ العديد من اللقاءات بين طهران وأنقرة. من الممكن فعلا، في حال حدوث تلك الحلحلة في الملف السوري، أن يبدأ الروس والأمريكان سيناريو مشابه أو على نفس النسق لفرض ما يسمى بـ “المصالحة الوطنية” في مصر.
    إن روسيا في الحقيقة، لا تفعل أكثر من تنفيذ السيناريو الأمريكي بتمكين تيارات الإسلام السياسي وقوى اليمين الديني المتطرف، ولكن بطريقة أخرى ناعمة ومخملية. هكذا هو مؤتمر جنيف، وهكذا يمكن أن تتبادل موسكو وواشنطن ورقتي مصر وسورية لينتهي الأمر بمصالحات وصفقات تؤدي إلى إشراك الإسلام السياسي والقوى المتطرفة في الحكم في بعض الدول، وانفراده بالحكم في بعض الدول الأخرى. ومن الواضح أن النموذج التركي لا يروق فقط لكل من روسيا والولايات المتحدة، بل ويبدو أن كلا الدولتين ترغبان في تسييد شكل من أشكال هذا النموذج بصرف النظر عن اختلاف الظروف السياسية والاقتصادية. وربما يكون ذلك تحديدا وراء تجاهل روسيا والولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية ما يجري في تركيا من أحداث والتعتيم عليها، ومحاولة دعم رجب طيب أردوغان وحزبه الإسلامي ضد الانتفاضات الشعبية المتوالية.
    البعض يرى أن لا مصلحة لروسيا في مثل هذه المصالحات والصفقات. ويستند إلى أن روسيا تضع جماعة الإخوان المسلمين على قائمة الإرهاب. وأن روسيا تحارب الإرهاب علي أراضيها، وبالتالي لن تقوم بخطوات تعمل على تقنين المنظمات المتطرفة والإرهابية. ولكن لا أحد يتذكر أن الرئيس الروسي بوتين نفسه التقى عضو الجماعة ومكتب إرشادها مرتين، بينما لم يلتقيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما! والمثير أيضا، أن روسيا تحارب التنظيمات الإرهابية الإسلامية والمد الوهابي ليس فقط في شمال القوقاز وفي عقر دارها، بل وأيضا في آسيا الوسطى حيث يتمركز حزب “التحرير الإسلامي” الذي يعيش قادته في عدد من الدول الأوروبية ويتمتعون بالدعم السياسي والمالي.
    لقد بدأت تظهر بعض المجموعات المتخصصة في إقامة المؤتمرات والحملات الدعائية والإعلانية وتبادل الوفود. كل ذلك أمر مهم وضروري بطبيعة الحال في العلاقات السياسية. ولكنه يتحول إلى استرزاق و”سبوبة” عندما نرى حالة أو حملة من التدليس وتزوير التاريخ، أو المبالغة والتضخيم في أحسن الأحوال. فقد أصبح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “الرجل الديمقراطي الأول في العالم والذي يلتف حوله شعبه”، وبات بوتين “المعشوق الأول للمصريين بعد وقوفه إلى جانب القضايا المصرية العادلة”، بل ووصل الأمر إلى فبركة الكثير من التصريحات التي تشير إلي أن مصر وروسيا فعلا “في خندق واحد”، فتمكنت مصر من إسقاط طائرات أمريكية على الحدود مع ليبيا، وحذر بوتين أمريكا مباشرة بأن أي اعتداء على الجيش المصري، هو اعتداء عليه وعلى الجيش الروسي، وأن بوتين أمر بتزويد مصر بمنظومات “إس ٣٠٠” و”إس ٤٠٠” للدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء أمريكي! إن مجموعات “السبوبة” الجديدة في مصر تزايد على الروس أنفسهم ، وتؤكد على وحدة الشعب الروسي خلف قائده وملهمه وزعيمه بوتين، بينما الأمور غير ذلك تماما، حيث تحبو روسيا في أولى خطواتها نحو شكل من أشكال الحكم لا يعرف نوعه ولا شكله ولا جوهره أحد إلى الآن.
    هكذا تجري صياغة واقع جديد على أسس قديمة وطرق ومناهج أكل عليها الدهر وشرب، وأثبتت عدم جدواها وفشلها. وهكذا تقوم مجموعات “السبوبة” الجديدة في كافة المجالات بتسويق نماذج منتهية الصلاحية والترويج لأساليب ومناهج من أجل تطبيقها في مصر، حيث يرى البعض أنها رائعة في روسيا أو النرويج أو فنلنده. إلا أن هناك من يخشى بالفعل، أن يأتي دور “عملاء الأمريكان” بعد أن صالت وجالت الأجهزة الأمنية المصرية لسنوات طويلة في مطاردة “الشيوعيين” و”عملاء الاتحاد السوفيتي” و”عملاء روسيا”.

  3. يقول أمير (مصر):

    تحليل موفق يا استاذ عبدالحليم
    احسنت

  4. يقول د/ رابح علواني:

    لا مجال للمقارنة: اولا روسيا هي قارة و امبراطورية و قوة اقتصادية و تقنية و لها من المواد الاستراتيجية ما يجعلها من أولى الدول،،، اما مصر فهي أفقر الدول و لها نمو ديمغرافي سريع و فساد اداري و سياسي رهيب و تعليم متدني و قوة عسكرية ظالمة ثم ان مصر مرهونة الى كمديفد والى امريكا و البتر دولار و بالتالي ليس بهذه الطبقة السياسية الحالية و التي تساعد السيسي يمكن ان تقلع نحو الانعتاق و التحرر.

    ثانيا: بوتن ورث توافقا على إرجاع روسيا الى مرحلة الحرب الباردة و اعادة التوازن بين الغرب وأمريكا من جهة و روسيا و الصين من جهة اخرى و هو بالتآلي مهندس هذه المرحلة ووجد الدعم من كل اجهزة الدولة،،،،، بالمقابل ماذا يملك السيسي!!؟؟ دولة منهارة اقتصاديا و متفككة اجتماعيا و سياسيا و خاضعة الى تجاذب و صراع إقليمي تحدده السياسة الامريكية بالتوافق مع حلف إماراتي-سعودي-اسراءيلي.

    لذلك سيظل يحلم الناصريون بجمال عبد الناصر جديد تنتجه المؤسسة العسكرية (المرهونة لامريكا) ولن يتحقق ذلك،،، و سيحلم اليسار أيضاً ببوتن او تشأ فاز عربي يصارع الإمبريالية في دولة أصبحت أسوأ من كثير من دول العالم الثالث.

    و بين حقيقة بوتن الذي يعيد روسا الى مجدها و بين حقيقة السيسي دفع من اخرين الى الانقلاب و الذي يريد تحقيق حلمه الشخصي (كما صرح بذلك) ولو كان لا الزمان و لا المكان يسمحان بمزيد من الماسي لمصر. بين هذا وذاك آلاف الكيلومترات يجب على السيسي قطعها بدا من الاعتذار عن المجازر الذي ارتكبها الجيش في حق شعب مصر و ووو،

    احسب هذا المقال مع احترامي لكاتبه،،، نوع من زرع الوهم و البكاء على الأطلال في زمن لا مكان للبكاء على الأطلال و لكن زمن يصنع فيه الوطنيين الأحرار الذي قادرين على احترام الوطن و المواطن مهمى كان الرأي و الموقف ما دام صاحبه وطني حر لا تدعمه قوى اجنبية،،، و السيسي ليس هذا الشخص.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية