هل يمكن إنقاذ لغة من الموت؟

حجم الخط
0

كانت دهشة صحافية «النيويوركر» جوديت ثورمان كبيرة حين التقت بلويس ميغال روجاس بيرسيا عاشق اللغات والمتخصص في علم النفس اللغوي، الرجل الذي يتقن اثنتين وعشرين لغة حية، كما يتقن ست لغات بين ميتة، وأخرى في طريقها للانقراض مثل العبرية.
رافقت ثورمان دكتور اللغات إلى مالطا، وتابعت عن قرب طريقته في تعلم اللغة، فكان الأمر أبسط مما توقعت، اندمج الرّجل في المجتمع المالطي، وبدأ يسأل الناس في كل مكان، عن بعض الكلمات، ثم يسجلها على دفتر صغير يحرص على حمله معه، يكرر الطريقة نفسها، على عدة أيام، فإذا به قد تمكن من فتح جسر تواصل مع المالطيين.
في طفولته، استطاع لويس ميغال روجاس بيرسيا التحدث بثلاث لغات في الوقت نفسه، هي لغة أبيه البروفية، ولغة أمه الإيطالية، ولغة جدته البييمونتية وهي لغة رومانسية منتشرة في شمال غرب إيطاليا، وعشقه للغات ربما انبثق في داخله من لغة جدته التي تسكنه. لكن المختصين في علوم اللغات، والميكانزمات الغريبة في العقل البشري، يذكرون نماذج كثيرة من هؤلاء المتميزين، الذين تلتقط ألسنتهم لغات عديدة، بدون عناء يذكر.
ومن هؤلاء يذكر التاريخ ميثراداتس العظيم ملك البنطس الواقعة على الساحل الجنوبي للبحر الأسود، الذي كان يتقن اثنتين وعشرين لغة، ويذكر هوسه بتعلم اللغات من باب الحذر وحماية نفسه، تماما كتدريب جسده على كل أنواع السموم المنتشرة في زمنه، فلا سم يؤثر فيه، لهذا طلب من عبده أن يقتله حين تم أسره من طرف الرومان. أما الكاردينال الإيطالي جيوزيف ميزوفانتي الذي عاش أواسط القرن الثامن عشر، فقد كان يتقن ثلاثين لغة، أو سبعة وثلاثين في رواية أخرى. وبين هؤلاء تُذكر الملكة إليزابيث الأولى التي أتقنت كل لغات مملكتها، وعددها عشر. ولكنها لم تدخل دائرة متعددي اللغة الذين يجب أن يتجاوزوا إتقان إحدى عشرة لغة. وتقريبا فإنّ هؤلاء المتميزين بألسنتهم العجيبة لا يتجاوز عددهم العشرين شخصا في أوروبا كلها، كما ذكرت إحدى الدراسات التي قدمتها «النيويوركر»، ومن بينهم الفرنسي كورنتان بوردو، والإيطالي إيمانويل ماريني وكلاهما يتقن ثلاثين لغة من بينها اللغة العربية والتركية.

صعوبة تعلم اللغات تبدأ بعد تخطّي عمر المراهقة، وكلما تقدّم الإنسان في العمر أصبحت اللغات لا تعنيه

بالطّبع عشاق اللغة منتشرون في هذا العالم، ولكن يبدو أن انتشار اللغة الإنكليزية في العالم، قلّص اهتمام النّاس باللغات، فانكبوا أكثر على تعلمها، فالإنكليزية إن لم تكن لغة أولى في بلد ما فهي الثانية على أبعد تقدير، وسواء برمجت اليوم من طرف بعض الدول في المقررات المدرسية أم لا، فإن الأجيال الجديدة تقبل على تعلّمها من خلال الأفلام، والبرامج العلمية الكثيرة المنتشرة عبر يوتيوب، ومواقع أخرى، وتطبيقات سهلة الإنزال على الهاتف، منها ما يتجدد كل يوم وتسهل طريقة استعماله، حيثما يكون الشخص، وبدون حاجة للإنترنت. أمام هذه اللغة العالمية الكاسحة، علينا أن نسأل عن وضع لغتنا؟
تقرع الأجراس في عدة بلدان في العالم، خوفا من تراجع لغاتهم أمام الإنكليزية، بل إن بعض اللغويين يعتبرون الإنكليزية لغة مغلقة تباعد بين الشعوب أكثر مما تقرب بينها، كونها دخلت اليوم تحت عباءة الشوفينية. من أي باب طرحوا هذه الفكرة؟ لا أدري… فبعض العارفين بمسائل ثقافات العالم يرون أن التعلّق بلغة واحدة يجعل المرء منحصرا في ثقافتها، وأنها قادرة على اقتلاع الشخص من جذوره، وتغريبه عن مجتمعه. لكن المتتبع للغات وتاريخها سيكتشف أنها تنبثق من لغات أخرى، وتتطور حسب الجماعات التي تستعملها، وهناك لغات تزدهر ثم تموت، وأخرى تولد في دورة حياتية غريبة تشبه حياة الكائنات الحية.
كيف يمكن إنقاذ لغة على وشك الانقراض؟ أو كيف يعاد بث الحياة في لغة ميتة؟ هذا موضوع آخر، لكنه مقرون بمدى ارتباط اللغة بالهيمنة البشرية عسكريا واقتصاديا. لكن العلماء يرفضون هذا الطرح، ويعتبرونه أبعد ما يكون سببا لبقاء لغة على قيد الحياة، فقد تم التأكد من أن جينا أطلق عليه اسم FOXP2 هو جين اللغة، وهذا الجين في حال غيابه بسبب طفرة ما فإن الإنسان سيكتفي بلغته الأم.
أما صعوبة تعلم اللغات فتبدأ بعد تخطّي عمر المراهقة، وكلما تقدّم الإنسان في العمر أصبحت اللغات لا تعنيه، مع أشياء كثيرة مرتبطة بها. مثل القراءة التي يستقر فيها الشخص على لغة واحدة، إلاّ في ما ندر.
تحليل اللغة دماغيا، وإعادة تركيبها، بدافع الفهم، وفك ألغاز حقبة تاريخية موغلة في القدم، أو معضلة ما لأسباب لغوية، تحدٍّ كبير، نجح فيه بعض العباقرة، مثل فك رموز الحروف الهيروغليفية ومعرفة جزء من تاريخ الفراعنة، إذ لم يكن هذا ممكنا بدون فك تلك الشيفرة الغريبة لتلك الرموز، ولولا ذلك الاحترام الكبير للغة باعتبارها المفتاح الرئيسي لفهم تلك الحضارة التي أصبحت من الماضي السحيق. للغة أيضا تأثيرات عظيمة ليس فقط في ربط الفرد بجذوره، بل بإبقاء ذاكرته حيّة، فاللغة هي الماضي والحاضر والمستقبل، وحسب إحصائيات قامت PR Newswire وهي وكالة أمريكية للإعلام، فإن الهند تتربع على عرش القراءة بمتوسط زمني يقدر بـ10 ساعات و42 دقيقة أسبوعيا، تليها تايلند بـ8 ساعات و34 دقيقة، والصين بـ8 ساعات، ثم الفلبين بـ7 ساعات و36 دقيقة… وهذا يعني أن القارة الآسيوية تسجل أعلى نسبة قراءة مقارنة مع القارات الأخرى، إذ أن أوروبا ممثلة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والسويد وإسبانيا، والولايات المتحدة يتقارب متوسط عدد قرائها بين 7 والـ5 ساعات أسبوعيا.
هذه الأرقام تكشف عن الرابطة المتينة التي تجمع بين القراءة وصمود اللغة أمام المؤثرات التي قد تؤدي إلى موتها، حيث تتربع الهند على عرش الحفاظ على لغتها وسط لفيف ضخم من اللغات الموزعة في ربوعها، وهذا يبدو غريبا جدا، خاصة أن القارئ الهندي لا يزعجه أن يتعلّم لغة إضافية من أجل تسهيل تواصله مع العالم، فلا خطة، ولا منهج حكومي يجبر الناس على الحفاظ على لغتهم، لكن القراءة تكفلت بذلك، تماما كما هو الوضع في الصين، إذ أن إقبال الصينيين على تعلم اللغات ومنها اللغة العربــــية يتزايــــد يوما بعـــد يوم، كونهم أدركوا هم أيضا أن مفاتيح العالم تبدأ بتعلم اللغات.
في عالمنا العربي تزحف اللغة الإنكليزية لتغطي بظلالها لغة الضاد، حتى أن بعض الكتاب باللغة العربية يكتبون بلغة ركيكة، ولا يهتمون لكم الأخطاء في نصوصهم، في ما تكلل بعض دور النّشر تلك النّذالة بما هو أنذل، حين تستمر في نشر تلك الرداءة بدون الاهتمام بلائمة لائم. يفقد الفرد العربي لسانه شيئا فشيئا، لأنه لا ذاكرة له، فالذاكرة تحفر في الكتب، والكتب تُقرأ ليستعيد المرء وعيه، إنها الحلقة السحرية البسيطة التي تبقي اللغة بخير، بعيدا عن القرارات السياسية الغبية التي أربكت العقل العربي بفرض لغات ورفض أخرى.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية