يُطرح هذا السؤال في السياق السوداني اليوم أكثر من أي وقت وسياق آخر، فبعد عودة رئيس الوزراء من غيابه القسري، لم يتردد في وصف ما مرت به البلاد بالانقلاب، وهو التوصيف ذاته الذي قدمه مالك عقار قائد إحدى الحركات المسلحة، وعضو المجلس السيادي الحاكم. لكن هذا التوصيف لم يمنع كليهما عن التعبير عن قناعتهما برجاحة «إجراءات» قائد الجيش وثقتهما بأنها ستقود البلاد إلى طريق الانتخابات.
الالتباس لم يقتصر على الفاعلين الداخليين، فقد تابعنا ما ظهر من ارتباك أمريكي في توصيف ما حدث، فرغم بيانات الإدانة والدعوات لاستعادة الحكومة التي يقودها مدنيون، إلا أن أغلب المتحدثين كانوا يتجنبون وصف ما حدث بالانقلاب.. الأمم المتحدة بدورها انتقلت في غضون أسابيع من موقع الإدانة لما اعتبرته انقلاباً في البداية، إلى إدانة وتحذير المعترضين على اتفاق حمدوك – البرهان.
الأمر لم يكن أيضاً محسوماً على صعيد الخبراء الدوليين، فقد استمعنا للخبيرة الأمريكية في شؤون السودان جانيت ماك أليغوت، التي رفضت بشكل قاطع وصف ما حدث بأنه انقلاب، ذاهبة لتقديم رؤية مؤيدة لمنطق قائد الجيش، الذي برر تحركه بالرغبة في «تصحيح مسار الثورة».
الانقلاب، حسب أليغوت، كان حينما قرر العسكريون إجبار الرئيس عمر البشير على التنحي، أما ما قام به عبد الفتاح البرهان إزاء حكومة «الحرية والتغيير» الانتقالية، فلم يكن سوى محاولة لاستبدال العناصر الفاشلة والسعي لإيجاد حكومة جديدة. إذا استطعنا تحييد العاطفة، وهو أمر غير سهل، سنكتشف أن أصل الالتباس في هذه المسألة لم يكن يعود للجانب القانوني، وإنما لوجهة النظر السياسية، أنظر مثلا للحدثين المهمين الذين وقع فيهما ما يمكن أن نسميه «استيلاء على السلطة» والمتمثلين في الحالة السودانية وفي حالة تونس، التي تم فيها الاستيلاء على يد الرئيس. سوف نكتشف أن المتحمسين للخطوة في البلدين كانوا من الجهات المتضررة من طريقة الحكم السابقة، ومن تغول بعض المنافسين على المجال السياسي («النهضة» في الحالة التونسية وأحزاب «الحرية والتغيير» في الحالة السودانية). صحيح أن ذلك الحماس تدثّر بمسوغات تبرير قانونية، لكن الواضح أن السبب الحقيقي وراءه كان الرغبة في البداية من جديد وإعادة توزيع الأوراق السياسية. بالمقابل عارضت أطراف أخرى، كانت، بشكل ما، مستفيدة من معادلات الوضع القائم، تلك «التغييرات» بشراسة ظهرت في التركيز على استخدام مفردة «الانقلاب» وحث جميع المتعاطفين على تكرارها وتثبيتها، لكون هذه الكلمة مفتاحية من أجل تبرير أي عمل شعبي مقاوم. بالإضافة إلى التباعد بين المجالين القانوني البحت والسياسي، هنالك مجال آخر لا يمكن تجاهله، وهو ما يمكن تسميته «التدافع الدولي» ذلك العامل مؤثر جدا في توجيه الأحداث، حيث توضح السلاسة التي تمت بها إزاحة «النهضويين» عن الحكم في تونس، كيف صادفت القرارات التي شملت تجميد البرلمان المنتخب، والقفز على مواد الدستور هوىً لدى العواصم العالمية والإقليمية المؤثرة، التي لم تكن ترى في حزب «النهضة» رغم ما قدم من تنازلات، شريكاً يمكن التعويل عليه. بالمقابل لم يشفع لقائد الجيش السوداني سرده لبيان طويل ذكّر فيه بفشل القيادات التنفيذية السابقة، واحتكارها للسلطة التي أصبحت مقسّمة بين أحزاب وكيانات معدودة، كما لم تفد كل الدفوعات التي تركزت حول أن الجيش هو الذي مدّ الحكومة المنحلة بالشرعية، وأن «الوثيقة الدستورية» التي تم تعليق بعض موادها، لم تأت عبر تشاور مجتمعي، ولم تكن محل اتفاق. كل ذلك لم يبد مقنعاً «للمجتمع الدولي» الذي كان يمثّل دور الراعي لحكومة «الحرية والتغيير» الليبرالية.
كسب المجتمع الدولي يمثّل أولوية لكل صاحب انقلاب فما يحدد ما إذا كان ما قمت به شرعياً أو لا، ليس وجهة النظر الشعبية، وإنما الدولية
كسب المجتمع الدولي يمثّل أولوية لكل صاحب انقلاب، أو قل لكل صاحب «إجراءات» فما يحدد ما إذا كان ما قمت به شرعياً أو لا، ليس وجهة النظر الشعبية الداخلية، وإنما الدولية. في الحالة السودانية استمرت الضغوط السياسية والإعلامية حتى تمت إعادة عبد الله حمدوك لمنصبه كرئيس للحكومة. كانت هذه الاستعادة مهمة جدا وأساسية بالنسبة لأطراف رأت في الرجل رمزاً لمشروع يهتمون بأن لا يسقط، وإن تراجع بشكل مؤقت. كما قلنا فإن المهم في توصيف إجراء ما بأنه شرعي أو غير شرعي لا يتعلق، وهذا مؤسف بالتأكيد، بلوائح القانون، لأن القانون الدستوري يتسم بغموض استدراكاته، التي تجعله يعجز عن تقديم تعريف واضح. هذا ينطبق أيضاً على القانون الدولي الذي يختص، يفترض، بطريقة التعامل مع الأنظمة الانقلابية. هذه الفراغات الدستورية وذلك الغموض يمنح الدول التي تسيطر على القرار الدولي حرية أكبر للتحرك والتوصيف، كثيراً ما تستغلها لدعم كل ما يصب في مصلحتها. هذه الأجواء القانونية الغائمة شجعت الأكاديمي الأمريكي من أصل تركي أوزان فارول على استخدام مصطلح «الانقلاب الديمقراطي» الذي يبدو لأول وهلة متناقضاً. يأخذنا أستاذ القانون في كتابه الصادر عام2017 ، الذي جمع فيه أفكاره ومن بينها بحث سابق قدمه لمجلة «القانون الدولي» بجامعة هارفارد عام 2012إلى مرحلة متقدمة تالية لمرحلة غموض التوصيفات القانونية ليقول، إن الانقلاب مكتمل الأركان، وليس فقط الإجراءات المختلف حولها، قد يكون مهماً لإنقاذ الديمقراطية. المبرر هو أن المدنيين يكونون في بعض الأحيان عالقين وغير قادرين على الخروج من عنق زجاجتهم، إما لأنهم مطوّقون بالسياق الدستوري، أو لأنهم لا يملكون القوة الكافية لتغيير معادلات الصراع. هذا الوضع يجعل تدخل الجيش لازماً من أجل إنقاذ أولئك العالقين على طريقة رمي كل الأوراق والبدء من جديد. في حالة «الانقلاب الديمقراطي» تكون هذه البداية عن طريق تهيئة الأجواء لانتخابات حرة.
يجب أن نتذكر أن فارول وضع تنظيراته تلك في أجواء عام 2011 التي شهدت ما اصطلح على تسميته بثورات «الربيع العربي». ركز فارول، بجانب أمثلة تاريخية أخرى من تركيا والبرتغال، على الحالة المصرية ليقول إنه، ومن الناحية القانونية المحضة، فإن ما حدث شكّل انقلاباً على الرئيس مبارك، لكن ما جعل الناس يتجاوزون هذه التسمية السلبية هو أن ذلك تم برغبة شعبية عارمة رأت ضرورة التخلص ممن وصف بأنه ديكتاتور ومستبد. يخلص فارول للقول إن الاستجابة لرغبة الجماهير لا يمكن أن تسمى انقلاباً، وإن سميت فهو انقلاب حميد لصالح الديمقراطية.
من المفارقات هنا أن مصطلح «الانقلاب الحميد» استخدمه قبل عقود طويلة السياسي السوداني الصادق المهدي في منطق مماثل.
في عام 2013 وبعد تنحية الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي على يد الجيش، عاد الزخم مرة أخرى للتنظير حول «الانقلابات الديمقراطية» ومثلما يحدث في مثل هذه الأحوال كان الاستقطاب كبيراً بين فئة رأت أنها على حق، لأنها أتت بصندوق الانتخابات، وفئات أخرى كانت مقتنعة بأنها على حق، لأنها تعبر عن رغبة الجماهير التي أجمعت على أنها لا تطيق الصبر حتى اكتمال الفترة الرئاسية. فتح ذلك باب النقاش الفلسفي حول شرعية الشارع وجدوى الصندوق. أفكار فارول ظلت حاضرة هنا وكان من بين آثارها مقالة مهمة نشرتها مجلة «فورين بوليسي» استندت فيها إلى تنظيراته، وهي تحاول إعادة تعريف ما حدث في مصر عام 2013. حفزت كتابات فارول كذلك نيكول فلكنهاينر وباحثين آخرين على وضع كتابهم المشترك: إعادة التفكير في النظام.
كاتب سوداني
بدول العرب منتسبوا أجهزة عسكرية وأمنية وأقرباؤهم وأصدقاؤهم يجاوز نصف السكان وبيئة الأعمال والصناعة والأغلبية الصامتة والأقليات تفضلهم على الفوضى، بالتالي لا يصل موقع مسؤولية أو يبقى فيها إلا من كان منهم أو مدعوماً منهم ويتسلحون عادةً بثقافة عربية إسلامية سمحة جامعة مع تمسك بهوية وطنية فتصبح معاداتهم بمثابة خيانة عظمى للوطن والأمة، وبات الغرب يفضل أنظمة قوية تكافح إرهاب ومخدرات ولن يكرر تجارب فاشلة بتنصيب شراذم معارضة خارجية وداخلية بالحكم تنهب ثروات وتشيع فوضى وتتيح تدخلات إقليمية تسنزف الغرب.
عنوان المقال – هل ينتج الانقلاب ديمقراطيه — اظن ان نشاهد دول العالم التي يحكمها عسكر — من اقصي الارض الي ادناها — وشاهدنا الدول التي يحكمها حكام مدنيين وكل اجهزة الدولة تنفذ اوامر الحاكم بطريقة حكيمه وهادئه ويتمتع المواطن بالحرية والرفاهية عكس الدول التي يحكمها جيش وبوليس — وتجد المواطن فقير ويهان من الجيش والشرطة التي تعيش من دمه–
و أخيرا مقال رائع لعقل سليم غير ملوث بالثقافة الفاسدة العامة ….رجل حكيم يحلل بحكمة أمور السياسة …..
اعتقد ان من الصعب علي المجتمع الدولي تحديد موقف واتخاذ قرار حول الأحوال السياسيه فبل وبعد الانقلاب، نسبه لأن هنالك مستجدات ومتغيرات استراتيجي كبيره عند الحركات المسلحه وغيرها، وظهورمفاهيم جديده لم تكن اصلا موجوده، بمعني كلمه مثل تغيير للنظام الاجتماعي المتكامل، لذا يصعب علي المجتمع الدولي فهم ايه هي القضيه؟
الشعب السوداني لا يريد العسكر في السلطة، يكفي ما فعلوه منذ عشرات السنين، وحتى تقسيم البلاد، والهروب الآن نحو اسرائيل لتحميهم. الشعب السوداني يقول كلمته كل يوم وعلى مثقفينا أن يسمعوا صوته بدل البحث في متاهات التحليلات الإفتراضية والخيال الواسع، للاسف هم في عالم آخر