هل يوجد نبض؟… الأردن ومعلبات «البيروقراط»

راقبت العينين جيدا في الغرفة المغلقة جدا أثناء حوار صاخب. صاحبنا وهو مسؤول بارز في العمق تقاعد الآن كان يحدثني عما يفكر به عقل الدولة في مسألة الحراك الشعبي.
قالها بهدوء أعصاب مميت وبدون أي إرتجاف وبصيغة قانون غير مكتوب يحكم كل الاعتبارات، «الشارع مثل أطفالك… لا يشبع ويريد المزيد دوما ولا يحفل بك».
تلك بصراحة واحدة من المعادلات المستقرة في أروقة القرار الأردني والتي بعدما سمعتها علمت بأنها تشكل صياغة غير مكتوبة تصوغ ذهنية واتجاهات الموظفين في البيروقراط المحلي. توضح هذه العبارة في الجزء الخشن وليس الحكيم منها كيف ينظر الموظف العام لمواطنيه عندما يتحركون في الشارع.
كنت أفضل مثلا عبارة أخرى تقول بأن الانصاف الاجتماعي نتيجة حتمية لتفعيل دولة القانون والمؤسسات بحيث يعرف كل مواطن حجم حصته وواجبه، وما عليه وما له دون أن يشبع أو يجوع أو يصاب أحد بالتخمة ودون الإصرار على منطق دولة الرعاية وهي تناقض دولة الانتاج بطبيعة الحال.
طبعا أضم صوتي للقائلين دوما بدولة المواطنة، وهي بالضرورة دولة يشبع الجميع فيها ولا ينقسم شعبها بين جناحين متخم وجائع.
على كل حال تلك العبارة ليست يتيمة في متحف تراثيات تلك القواعد التي تقال بعيدا عن العلنية بين الحين والآخر، ثم تتحول بعد الإفراط في عدم نقاشها إلى قوانين مسكوت عنها تحكم المعادلات، فتسيء للوطن والمواطن وتسحب بالنتيجة من رصيد الدولة والنظام عند الشعب.
واجهتني بأمانة مقولات مضحكة من مسؤولين كبار ليس صدفة أنها تتردد في المجالسات المغلقة عند بعض المنعطفات. إحدى أكثر معلبات المقولات التي تثير السخرية هي تلك التي تقول: «نحن في هذا البلد نفضل عدم التحدث عن مشاكلنا ولا نحب نشر الغسيل».
قانون غير مكتوب آخر مضحك جدا في مستويات الإدارة يفسر كيف تتراكم المشكلات وتكبر التحديات وسط حالة الخجل الوطني غير المبررة والتي يقابلها إفراط في الادعاء وأنيميا في الانجاز.
في الإدارة تحديدا قد لا يدل ذلك على ورم سرطاني خطير فقط، بل على ما سماه صديق أمامي يوما بعدم وجود «نبض». شخصيا لا أعرف ولم أقرأ طريقة ما تقودني لحل مشكلة ما بدون التحدث عنها، لكن الاكتشاف المذهل عندما نعلم بأن سكان الطبقة العليا يسترسلون في تخزين مشكلات وملفاتها فيخدعون القيادة والناس في عملية تضليل منهجية سلوكية تزعم أنها عملية وطنية.

لا بد من مراجعة سلسلة طويلة من القوانين غير المكتوبة الضارة والتي يتم تكديسها في متحف خاص غير علني، يحكم الكثير من الاعتبارات ويتغذى على الشخصنة والشللية

صعقتني قبل سنوات عبارة أخرى سمعتها في مواقع قرار ثم تكررت مؤخرا تقول «من يخطبون ضد الفساد والفاسدين في البلد راغبون في حصة من الفساد وشراكة معه ليس إلا».
مصيبة بعبارات أنيقة متزحلقة وكارثة وطنية بامتياز تحاول تبرير ليس فقط العجز عن مواجهة الفساد، لكن اعتباره حقيقة قومية ووطنية مستقرة في أعماق المجتمع، كما تحاول بوضوح تفسير الاعتراض على الفساد، باعتباره زحاما ليس أكثر للحصول على قطعة من كعكته.
تلك عبارات معلبة خطرة جدا. كيف يمكن إقناع صاحب قرار أو موظف عام بمحاربة الفساد حقا وفعلا إذا كان يؤمن بأن الاعتراض عليه سعي نحوه. سمعت يوما أيضا عبارة بمنتهى الطرافة في مؤسسة رسمية معنية بتحصيل أموال الدولة، «إذا استطعت مغيب وإذا وقعت فكن طيبا» تجليات ما بعدها تجليات في عالم التحصيل تحديدا.
يصوغ الجميع عبارات لا معنى لها لتفسير الإخفاق وسرعان ما تتكلس هذه العبارات في المفاصل، فتمنعها من الحركة وتشد عضلات القطاع العام، فيثقل اللسان وتصبح المعالجة صعبة ومعقدة، وعلى الأرجح تحتاج لطاقم من المختصين ذوي الحاجات الخاصة.
ليس سرا أن موظفين في مؤسسات رسمية يعتبرون توزيع المال هو مفتاح الحل السحري لبعض أجنحة الحراك الابتزازي في الشارع، وليس سرا بعض المواطنين يعتقدون بأن الدولة الرعوية مجرد شجرة لا تنزل منها ثمرة إلا بحجر.
وبالتأكيد ليس سرا الاعتقاد الوهمي في بعض أروقة القرار بأن شراء الناس هو الأساس في الاحتواء، وبأن الشعب سيزوّر الانتخابات إذا لم تُزوَّر، وبأن حفنة ملايين من الدولارات هي فقط كفيلة بإسكات الأصوات المرتفعة.
وبأن ـ وتلك المقولة الأكثر شعبية ـ الديمقراطية لا تليق بالشعب الأردني، والإصلاح السياسي ترف لا يمكن إنجازه مادام الصراع العربي الإسرائيلي مستمرا، ما يعني بطبيعة الحال استحالة الإصلاح.
كل تلك معلبات وعبارات اكتسبت قوة إضافية وزخما بحكم التقادم وبحكم الشطط والخلل بالسلوك الاجتماعي.
حتى تستقيم الأمور لا بد من مراجعة سلسلة طويلة من القوانين غير المكتوبة الضارة والتي يتم تكديسها في متحف خاص غير علني يحكم الكثير من الاعتبارات، ويتغذى على الشخصنة والشللية والاحتقان والحقوق المكتسبة وشقيقتها المنقوصة والمحاصصة البغيضة وكل بقية ملحقات الفيلم التركي الطويل.

إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خالد ابوصيام:

    احسنت … لقد شخصت الكثير من واقع الحال اشكرك

  2. يقول سامح //الأردن:

    *مشكلتنا في الاردن الحكومة تحاسب
    الفاسدين من صغار الموظفين
    حسبنا الله ونعم الوكيل في كل فاسد.
    حمى الله الأردن من الأشرار والفاسدين والمفسدين بالأرض والحمدلله رب العالمين.

إشترك في قائمتنا البريدية