ينصح أخصائي علم النفس وخبراء التنمية البشرية بضرورة كتمان الانفعالات وما يعتمل داخل الإنسان، للإبقاء على كاريزما الشخصية وجعلها شديدة الجاذبية لمن حولها. فقد اتفق جميع الخبراء المهتمين بتنمية الكاريزما أن الشخصيات الشفافة لا يحبِّذها من يخالطها؛ لأنها تعمل على تلاشي هالة الغموض التي تحيط بها، وتلك الهالة هي مصدر الجاذبية، هذه التقنية قد يُطلق عليها أيضا القدرة على ارتداء قناع لإخفاء المشاعر الداخلية في الأوقات الحرجة.
وقد استطاع الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي Ernest Hemingway (1899-1961) استخدام تلك التقنية ببراعة فائقة، طوال سنوات حياته المأساوية التي لم ينل فيها ولو قسطا من الهدوء من التعاسة التي لازمته منذ الطفولة. فهو يدرك تماما أنه قد يكون موضع حسد لما يتمتع به من مكانة أدبية واجتماعية راقية، وثروة تجعله يرفل في السعادة، بالإضافة إلى حصوله على أعلى جائزتين في الأدب، ألا وهما جائزة البوكر وجائزة نوبل. ولا يقف الأمر عند ذاك الحد، فقد يبدو للبعض أنه لم يعاني في فترة طفولته وصباه؛ لأنه ولد في أسرة من الطبقة المتوسطة الميسورة، وكان والده طبيبا، وأمُّه ممرضة، ونال تعليما جيَّدا منذ نعومة أظفاره.
ورغم كل تلك المزايا التي يطمح لها الجميع ويتمنى نيل بعض منها، حاول إرنست همنغواي الانتحار عدَّة مرَّات، ونجح في الأخيرة حينما استخدم مسدسه وأطلق الرصاص على نفسه؛ فالجزء الظَّاهر من جبل الجليد الخاص بشخصيته لا يعكس على الإطلاق تفاصيل حياته المأساوية.
فقد ولد لأب يعاني من اضطراب الشخصية الحدِّية، وهذا المرض النفسي آنذاك لم يكن له تشخيص أو علاج نفسي. ومن جراء نوبات ذاك المرض، كان كثيرا ما يضرب الأب صغيره إرنست بحزام مصنوع من الجلد، عند انفجاره في نوبات غضب مفاجئة، لكن لم يعنِ ذلك أنه لم يكن أبا جيِّدا، فكثيرا ما كان يحنو على ولده، بل علَّمه صيد الحيوانات والأسماك، وأهداه سلاحا ناريا حقيقيا، وهو فقط في العاشرة من عمره. وكانت صدمة الصغير، أن والده الحنون هذا ينتحر فجأة بعد إصابته باكتئاب شديد. أمَّا والدته، فكانت شخصية متسلِّطة لأقصى درجة حتى مع زوجها المريض النفسي، ما جعل همنغواي يعتقد أن والده انتحر بسبب تسلُّطها العارم الذي طال أيضا الصغير إرنست عندما كانت والدته تصر على أن يكون ملبسه أنثويا وكذلك قصَّة شعره. ولم يستطع الصغير التخلُّص من ذاك المظهر الذي يكرهه إلّا وهو على أعتاب الالتحاق بالمدرسة، حيث قصَّ شعره وأظهر لها أنه بات لا يطيق معاملتها له كأنثى. وتوالت المآسي وسوء الحظ عليه طوال فترة حياته، ما جعله يصاب باكتئاب حاد، وأردفه بمحاولات انتحار لعدَّة مرَّات. وعلى الرغم من عدم وجود علاج متخصص آنذاك للأمراض النفسية، لكنه اعترف بالمرض وذهب لطبيب نفسي لعلاجه، بعد أن أصابته النوبة بعد تحطُّم طائرته في رحلة سفاري إلى نيروبي، والغريب أنه لم يتأذَّى أحد سواه من جرَّاء ذاك التحطُّم، وانتهى به الأمر شبه قعيد ويعاني من فقدان بصر في إحدى عينيه. وتحمَّل خانعا جلسات علاج نفسي للاكتئاب بالصدمات الكهربائية، وبعد أن أخرجه الطبيب من المصحَّة وأقرّ أنه قد شُفي، داهمه الاكتئاب مرَّة أخرى لعدم تحمُّله فكرة أنه سيقضي ما تبقَّى له من حياته معذَّبا معاقا، ولهذا أطلق الرصاص على نفسه لوضع نهاية لحياة عدمية لم ترضه.
وانعكست تقنية جبل الجليد أيضا على أسلوبه في الكتابة، فقد عمد إلى أن يكون إنتاجه الأدبي، سواء القصصي أو الروائي أو الشعري أو المقالي، مكتوبا بجمل قصيرة، مباشرة، سهلة، لا تحيد عن صُلب الموضوع، ولا تجنح للوصف، لكنه على النقيض، استطاع أن يُحَمِّل كل جملة وكل كلمة بالعديد من المعاني التي تجعل القارئ يفكِّر طويلا بعد قراءته ليس فقط لأي عمل، بل أيضا لكل جملة.
برع همنغواي في تلك التقنية؛ لأنه كان يضيف من روحه وخبراته الشخصية وذاته المعذَّبة على كل حرف يكتبه؛ فصدق التجربة أضحى أداة تميُّزه التي لا يظهرها باقي جبل الجليد، أو بالأحرى المآسي الذي يخفيها. ويعكس هذا نصيحته للأدباء، عندما قال: «إنسَ مأساتك الشخصية. نحن جميعا غاضبون منذ البداية؛ يجب أن تتأذى بشدة قبل أن تتمكن من الكتابة بجدِّية. لكن حال تعرُّضك للأذى اللعين، استخدمه، ولا تغش به». فهو ينصح الأدباء أن يكون الإنتاج الأدبي للروح المعذَّبة معاني صادقة، وليس سلسلة من المآسي المُخْتلقة التي لا تترك أثرا في نفس القارئ. باختصارهمنغواي ينصح الأدباء بأن يصيغوا أعمالهم كجبل جليد؛ الجزء الصغير الظاهر منه لا يعبِّر عن عمقه المُخيف.
ومن أعماله الروائية الشهيرة «العجوز والبحر» و»وداعا للسلاح» و»الشمس أيضا تشرق» و»لمن تقرع الأجراس» وغيرها من الروايات الرائعة، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة والمقالات. وواحدة من أعماله القصصية البارزة التي تلخِّص في أسلوبها ومتنها ومضمونها أسلوبه، وصراعه الدَّائم مع الحياة، ومأساته الشخصية قصَّة «مكان نظيف جيِّد الإضاءة» وهذا كان كل ما يحتاجه طوال حياته. ويحكى أنه قبيل انتحاره أخبر من يجاوره أنه راغب في إضاءة جيِّدة.
والقصَّة التي لا يتعدى عدد كلماتها ألف وخمسمئة، بالضبط 1449 كلمة، وتقوم على الحوار، تحكي ببساطة عن نادلين في مقهى، أحدهما أكبر سنا من الآخر. وفي كل ليلة يرتاد المقهى رجل عجوز يسرف في احتساء الشراب حتى الثمالة إلى أن تغلق المقهى أبوابها في الثالثة صباحا، فينصرف عائدا إلى المنزل. وفي كل مرَّة يغرق في الثمالة لدرجة أنه في كثير من الأحيان قد ينسى قبل الانصراف دفع ثمن ما تناوله من كحولِّيات.
وفي تلك القصة التي تدور في مقهى، تبدو جميع الشخصيات للوهلة الأولى مبهمة بما في ذلك النادلين، لكن بحديثهما الجانبي وانفعالاتهما يتكشَّف الكثير. فمن النادل الأكبر سنًّا نعلم أن الرجل العجوز ثري، لكنه يعاني من وحدة شديدة، ولا يجد أنيسا سوى الجلوس في مقهى يعج بالزبائن. وعلى الرغم من أنه لا يتحدث مع أي شخص كان، لكنه يشعر وكأنه ليس وحيدا في تلك الدنيا التي انحسرت فيها عائلته فقط في ابنة شقيق له. وباستمرار حديث النادلين، يلاحظ أنهما شخصيتان متناقضتان؛ فالنادل الأصغر أناني، ويقارن بفخر نفسه وظروفه بالرجل العجوز، ويشدد أن لديه عائلة وزوجة تملأ له حياته. وتصل به الأنانية إلى حد عدم مراعاة شعور الآخرين والتطاول عليهم؛ فمن أجل أن يؤوب إلى منزله مبكرا قبل ساعة فقط من موعد الرجوع المعتاد، لا يجد غضاضة في إيذاء الرجل العجوز بكلمات فظة لتجعله ينصرف مبكرا، بل يشعر بأن زيادة تعاسة هذا الرجل انتصار. فكل همّ النادل الأصغر سنا تحقيق انتصارات لحظية، دون اعتبار أنه قد يكبر يوما وحينها قد يصير راغبا في إيجاد أي نوع من أنواع الصحبة، حتى لو كانت مجرَّد مكان نظيف ومضاء وكأسا من الشراب.
وعلى النقيض النادل الأكبر سنّا الذي يشعر بأنه نسخة أخرى من الرجل العجوز، فهو أيضا ليست له عائلة تنتظره، ويفضل الخروج من المقهى وقت الإغلاق فقط. والأكثر من ذلك، فإنه لا يشعر بقيمة الأشياء والأحداث في حياته، بعد أن فقد الإحساس بوجود أي شيء مميز، فأي وكل شيء والعدم سواء. وقبيل الخروج من المقهى يتلو صلاته التي قد تجعله أمام الآخرين يبدو وكأنه متدين، لكن من يقترب منه يسمع أنه قد استبدل كل ركن مهم بالصلاة بكلمة «لا شيء» توكيدا على إحساسه باليأس الشديد والوحدة والضياع. وفور خروجه من هذا المكان الجيد الإضاءة النظيف، سيقع في براثن عتمة الوحدة وعدم نظافة قلوب البشر والظروف. وكما يقول إرنست همنغواي: «حياة كل شخص تنتهي بالطريقة نفسها. لكن ما يميِّز حياة شخص عن آخر، مجرَّد تفاصيل الطريقة التي عاش بها وكيفية موته».
قصة «مكان نظيف جيِّد الإضاءة» كانت بمثابة الجزء الظاهر من جبل الجليد من شخصية همنغواي، الذي يتظاهر بالقوَّة، لكنه كان في حاجة ماسة إلى شعاع من نور الأمل الذي يجلي له ظلمة عدمية الحياة وعدم نظافة ما يمر به من أحداث.