ليس واضحا مدى استمرارالحكومة التي كُلف الشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح الأسبوع الماضي بتشكيلها، فقد عرف عن حكومات الكويت قصر عمرها لأسباب أهمهاغياب التوافق مع أعضاء مجلس الأمة المنتخبين. لكن ما هو واضح أن هناك استقرارا سياسيا نسبيا في هذا البلد الخليجي الذي استمرت تجربته البرلمانية منذ استقلاله قبل واحد وستّين عاما. وبرغم أن تلك التجربة مرت بمطبّات وعرة، ولكنها استمرت بنمط ثابت بدون أن يطرأ عليها تراجعات او تطويرت كبيرة.
وكانت المماحكات السياسية بين الطرفين، أعضاء المجلس المنتخبين وعائلة آل صباح الحاكمة من أهم أسباب حل البرلمان مرارًا. هذه المرة يُتوقع استمرارها فترة أطول ولكن ليس واضحا بعد ما إذا كانت ستستمر طوال السنوات الأربع المقبلة من عمر المجلس الحالي. أيا كان الأمر فستكون هناك ثلاثة ملفات ساخنة أمام المجلس والحكومة، وسيكون نمط التعاطي معها مؤشرا لمدى استمرار المجلس أو حله قبل انتهاء دورته الجديدة. ويجدر تسليط شيء من الضوء على هذه الملفات: أولها العلاقة بين المجلس والحكومة التي يرأسها دائما أحد أفراد العائلة الحاكمة، ثانيها: العلاقة مع «إسرائيل» التي أصبحت محورية لدى إدارة بايدن وتحظى باهتمام خاص لدى نصف الدول الأعضاء بمجلس التعاون. ثالثها: قضية من يُسمّون «البدون» الذين يتجاوز عددهم في الوقت الحاضر ربع مليون إنسان، ولدوا في الكويت وأغلبهم من أصول عراقية أو من الجزيرة العربية، ولم يمنحوا الجنسية الكويتية.
ليس جديدا القول أن تجربة الكويت تميزت عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي، وأصبحت مثالا يطرحه الغربيون لبقية دول المجلس كتجربة قابلة للتعميم كنظام سياسي يساهم في أمن تلك الدول واستقرارها، ويجنبها مخاطر التوترات والثورات كما يحدث في البحرين بشكل واضح. فهذه التجربة لها مزايا عديدة: أولها أنها لا تؤثر كثيرا على سلطة العائلات الحاكمة، ولا تهدد وجودها بشكل مقلق.
ثانيها: أنها توفر متنفسا لقطاع واسع من المواطنين الذين يرون فيها تمثيلا مقبولا لهم. ثالثها: أن هذه التجربة صاحبتها حرية نسبية أتاحت للمواطنين القدرة على التعبير والحركة تتسع أحيانا وتضيق أخرى ولكنها لا تتلاشى تماما. رابعها: أنها أتاحت للعائلة الحاكمة فرصة للظهور على المسرح الدولي كدولة «ديمقراطية» يحكمها دستور ويشارك شعبها في الحكم من خلال مجلس الأمة، وبذلك أبعدت عائلة آل صباح عن نفسها تهمة الاستبداد او الحكم المطلق.
خامسها: أنها حالت دون انتشار التطرف أو الارهاب والصراع المذهبي إلا في نطاق محدود، إذ وجد الجميع في المجلس مجالا للتمثيل والتعبير وطرح الهموم والمشاكل، وأدركوا أن العمل المشترك يقتضي قدرا من التحمّل وسعة الصدر. لذلك استطاعت الكويت تجاوز أغلب الأزمات التي عصفت بالإقليم وأغلبها كان ذا طابع أيديولوجي. لكن ذلك لم يمنع اختراقا أيديولوجيا لفضائها السياسي، وكان ذلك واضحا في تركيبة المجالس المتتالية. وكان ولي العهد، مشعل الأحمد يأمل بتقزيم البعد الأيديولوجي في المجلس الجديد عندما أقدم على حل الحكومة والمجلس في 2 أغسطس الماضي. ولكن الانتخابات ربما فاقمت احتمالات التنافس الأيديولوجي في المجلس الجديد بعد فوز عدد من الإسلاميين، وبالتالي لم يعد مستبعدا حله بعد فترة وجيزة فيما لو استمرت سياسات الشد والجذب بين الطرفين. وكان لافتا توقيت حل الحكومة ومجلس الأمة ليصادف ذكرى الاجتياح العراقي للأراضي الكويتية بأوامر من الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين قبل 32 عاما. ولعل في ذلك رسالة مفادها أن البلاد قد تصبح هدفا للآخرين إن لم تتوقف المماحكات والتوترات البينية.
هموم الكويت، كما هي هموم دول المنطقة، كثيرة ومن المؤكد أن إشراك المواطنين في تلك الهموم بتوسيع الحريات العامة والتمثيل السياسي يساهم في التخفيف منها ويحمي البلدان من أخطار التوتر
هذه التجربة، منذ بدايتها، واجهت معوقات عديدة في مقدمتها الرفض الاقليمي لها والمناوشات الداخلية والاضطرابات الإقليمية التي كانت تحديا كبيرا لها. ولكنها تجاوزت هذه التحديات في أغلب المرات، وبقيت رمزا لهذا البلد يميزه عن بقية دول المنطقة.
وفي الأسبوع الماضي ظهرت حساسيات الدول المجاورة تجاه التجربة الكويتية بوضوح. فقد فجّر تقرير لإحدى القنوات حول مجلس الأمة حرب تغريدات بين الكويتيين والسعوديين عنوانها «التجربة الديمقراطية الكويتية» وتسبب في دخول وزارة الإعلام الكويتية على الخط، فيما تساءل مغردون سعوديون عن سبب «ردود الفعل المبالغ فيها ضد بلادهم». فقد اعتبر التقرير أن «مجلس الأمة كبّد الدولة خسائر بالمليارات، وعطّل مشاريع استثمارية وتنموية كانت ستدر على الدولة أرباحاً بملايين الدولارات». وخاطبت الوزارة مكتب القناة في الكويت مؤكدة «رفضها التام لطريقة عرض البيانات التي جاءت في تقريرها الإخباري حول مجلس الأمة وابتعادها عن المهنية والموضوعية». ووجهت القناة كذلك السهام الى جماعة الإخوان المسلمين الذين فاز بعض مرشحيهم في الانتخابات، ذلك الفوز الذي أزعج قوى الثورة المضادة المعادية للتيارات الإسلامية.
الجانب الثاني من التحديات التي تواجه الكويت مسألة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ويسجل لها موقفها المشرّف الرافض لذلك التطبيع برغم الضغوط الخارجية للقيام بذلك. فليس سرّا وجود سياسة لدى تحالف قوى الثورة المضادة بفرض التطبيع كمسار جديد في المنطقة يفضي لانصهار كيان الاحتلال كقوة إقليمية فاعلة بعد أن كان وجوده مرفوضا رسميا وشعبيا. وقفت الكويت بوضوح ضد التطبيع، ورفضت الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ولم تستقبل وفودا صهيونية. فقبل أكثر من عامين (أغسطس 2020) أي بعد خطوات التطبيع التي قامت بها حكومتا الإمارات والبحرين وقّع 41 نائبا (من أصل 50) بيانا أكدوا فيه موقف الكويت الثابت لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وشددوا على أن الكويتيين لن يقبلوا أي تراجع عن التزام حكومة بلادهم بقضية العرب والمسلمين الأولى.
وأكد البيان أن الشعب الكويتي سيبقى يشد على يد القيادة السياسية في موقفها «الشجاع والثابت» تجاه القضية الفلسطينية على مر السنين، مشيرا إلى أن جرائم الاحتلال لا يمكن نزعها من نفوس الكويتيين. وفي مايو 2021 أعلن مجلس الأمة الموافقة مبدئيا على تغليظ عقوبات التطبيع مع «إسرائيل»وسد الثغرات، وعلى قانون حظر التعامل أو التطبیع مع الكیان الصھیوني.
واعتبر ذلك رسالة جدیدة بثبات الموقف الكویتي والتقاء الحكومة ومجلس الأمة، على الإدانة الشدیدة والرفض التام للعدوان الصھیوني وكافة جرائم الاحتلال في القدس وقطاع غزة والضفة الغربیة والداخل الفلسطیني. هذا الموقف ثمّنه الفلسطينيون.
كما شمل الموقف الكويتي مقاطعة الفعاليات الثقافية أو الرياضية التي تضم وفودا إسرائيلية. ففي أبريل 2019 انسحب وزير التجارة الكويتي خالد الروضان ومعه ممثل البنك الكويت المركزي وثلاث شركات كويتية أخرى من مؤتمر «ريادة الأعمال» الذي نظمته حكومة البحرين. وقاطع رياضيون كويتيون دورات رياضية عديدة رافضين السباق مع مشاركين إسرائيليين. ففي 2012 انسحب بطل تنس الطاولة للمعاقين الكويتي عوض الحربي من نصف نهائي بطولة رومانيا المفتوحة، رفضًا لمواجهة منافسه «الإسرائيلي جيفا ليران». وبانسحابهم من عددٍ من البطولات والمنافسات الدولية، أكد الكويتيون محمد الفضلي وعبد الرزاق البغلي ومحمد العوضي، حقيقةٍ واحدة مفادها أن ساحات مقاومة التطبيع مع نظام الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي عديدة، وأن الرياضة على رأسها.
الجانب الآخر من الشان الكويتي مسألة ما برحت تشغل بال الكثيرين داخل الكويت وخارجها، وهي قضية من اصطلح على تسميتهم بـ «البدون». وتعود أزمة البدون إلى نشأة الدولة الحديثة في الكويت في الستينيات من القرن الماضي، حيث لم يتقدم الكثيرون من «أهل البادية» بطلب الحصول على الجنسية، إما لأنهم كانوا أميين أو ربما لم يكن لديهم وثائق، وإما أنهم لم يعرفوا مدى أهمية المواطنة الرسمية.
وبذلك نشأت فئة كويتية محرومة من التمتع بالجنسية ومزاياها. وبعد الانتخابات بدأ تحرك محدود داعيا لحل المشكلة.
هموم الكويت، كما هي هموم دول المنطقة، كثيرة ومن المؤكد أن إشراك المواطنين في تلك الهموم بتوسيع الحريات العامة والتمثيل السياسي يساهم في التخفيف منها ويحمي البلدان من أخطار التوتر الداخلي والأطماع الخارجية.
كاتب بحريني