ضل هذا القدر طريقه أو ربما نحن من كان على خطأ من البداية. شعارات الحب والخير، إنها خيبة العبور إلى الفضائلية لهذا الكون الغارق في اللامعنى في العبث. لا شيء فيهِ مطلقٌ، فهذا الخير الأزلي في النهاياتِ ليس سوى بعضُ غبار على وجوهنا حين كنا أطفالاً نعود من اللعبِ، سرعان ما يزول. لو كنت يا صديقتي أملكُ ترفَ المحاكمة، لحاكمتُ هذا القدر بتهمة الخيانة. لم يخبرنا أحدٌ يوماً بأننا سنتحول إلى رماد، لروادٍ للنوستالوجيا، كحفاري القبور والفحم، نبحث عن بقايا الأحياء بيننا، أصبحت الذاكرة نافذتنا الوحيدة على العالم، وأصبحت مرآة طفولتنا، إنها نوستالوجيا الحاكمة لعلاقتنا الأبدية مع وجوهنا ولأيام الرفاق. فهذه المسافةُ ما بين ابتسامتنا الملقاة على الصور، وبيننا في كل لحظاتنا، أشدّ قرباً لشفاهنا من فم حبيبةٍ، وأكثر دفئاً من بقايا شفاهٍ عالقة من عابرةِ عنق في المنفى. نتقلب كل يومٍ نبحث عن ذاتٍ في أحد الأدراج، لم نعثرُ بعدُ إلا على قدرٍ يمشي على قدمين وعكازٍ هش من الخيبات. فهناك خطأ ما، ضل بنا المصير ما بين الحرية وبين المنفى.
حين يصبح الفقد قهوتنا اليومية، فإن أسوأ الاعتياد هو أن نعتاد الفقد وأقسى الفقد هو فقد الأوطان. لا مكان في أجسادنا المتآكلة حقداً لعناقٍ آخر. هنالك خطاً ما حين يصبح الوطنُ سراباً، يظنه الأحمق ماء، نتحدث عن النضال والثورة على شرف موائد المهجر، نتحدثُ عن ثورة وجياع وبساتين وكروم الحزن وطوابير الخزي ورعاع السلطان. بات الحزنُ مشاعاً لمن أراد تدوير الزوايا والجلوس مكان السلطان، فنحن بلد السلاطين والأنبياء. نحن كمن يسكن في الهواء أحزاننا، هي أرضنا وليس فوقنا سماء، نحن أصابع جنين تطوفُ في رحم الغد العالق في الأمس، ما بين الحرية والمنفى..
قال لي صديقٌ بأنه لم يعد يرغبُ بأن يُرزق بولدٍ آخر، فكفى هذا الكون نشوةً لمرةٍ واحدة وخطيئة لمرة واحدة، هذا الكون لا يحب الطهارة، لا يحب البراءة، لمَ علينا أن نرمي فيه أطفالنا كوقودٍ لعبثه ولمجونه. ننتشي كل مرةٍ بجنون الجسد نشقى. نتساءل من فينا الأكثر جنوناً؟ من فينا أشد كُفراً ومن هو الأتقى؟ الكل حمقى لا يدرون متى هم راحلونَ، ولا من فينا يوماً سيبقى. علينا أن نعلّم أبناءنا معنى المنفى؟ كيف سيفهمون معاني الحرية والعدالة وهم من جاءوا حفاةً من أوطانٍ حواملَ بالحزن وبالاستبداد، ثم ثاروا، ثم ماتوا ثم قاموا فجاؤوا سيراً على الأقلام، يكتبون سطوراً من تاريخ الهجرات المكلوم، تلك الهجرات ما بين الحرية والمنفى..
كل شيءٍ في المنفى مختلف، الحب مختلف، والخوف مختلف، لم نعد نحن هو المشهد، في هذا المسرح الكبير يا صديقتي لا مكان لنا، فالشعوب دائماً أكثر المتفرجين حماسةً وهم جميعاً ليسوا ضمن الصفوف، نحن من يتصارع والطغاة هم من يكسبون. لن تفهم أجيالنا هذه معنى أن تمشي على النارِ هرباً من وطن لتبحث مرةً أخرى عن وطن ولتعودين لتحيين الوطن في يومكِ وخبزتكِ وقهوتك اليومية. وددت كثيراً الدخول في ثغر طفلٍ في هذا المنفى حتى أفهم المعاناة، بين أن أكون عربياً أو سورياً أو مشرقياً، وأن أكون كل الهويات الأخرى، وددت أن أعرف كيف أن أكبر منفياً، أن أتحدث لغةً من تلك البلاد العتيقة المحفورة في صدورنا، وحتى في أصواتنا تداعب خيال الحرية المنسية فيها بلاد غارقة في بقايا قمامة، وهي تبحثُ عن خبز. بلادهم تشبه رحماً ندور فيه لا ندري ميعاد الولادة، ومن دون أن نستطيع أن نختار توقيت قدومنا، مازلتُ جاهلأ بالتوقيت والتأريخ، حسب تقويم ما قبل أو بعد الوطن.
هناك خطأ ما…
حين يكون قدرنا واحداً اسمه رحيل، من دون حتى أن نجد وقتاً كي نلملم أجزاءنا التائهة المتناثرة على سريرٍ واحد في ليلة سوداء نكراء، لسنا نحن من اختارها، ليلةٌ ما بين حريةٍ خائنة ومنفى..
كاتب سوري