هندسة الجوع على خرائط الخواء… المنطقة العربية في أزمة الغذاء

بدأت الموسيقى الفجائعية لأزمة الغذاء، من خلال التصاعد الحثيث للأسعار، الذي أنتجته مشكلات متعلقة بالزراعة في العقد الأخير، ولكن الصوت الخافت لم يتمكن من الوصول إلى الجميع، فبضعة سنتات أو بنسات إضافية لم تحدث مشكلة للمستهلك الغربي، وبقيت رفوف محلات الغذاء مزدحمة بالأصناف المختلفة، ولعل آثار العولمة امتدت لأقسام الغذاء، ففي كل بلد توجد محلات مترفة نوعاً ما توفر سلعاً مثل المخللات التايلندية والسوشي الياباني، وليس مستغرباً أن تجد الهريسة التونسية والحمص اللبناني في الأسواق البلجيكية أو الفرنسية.
هذه الحالة ليست الوضع في مدينة مثل تشيناي في الهند، خيارات الأطعمة محدودة، وفي المحلات المخصصة للطبقة الوسطى تطغى الجودة المتواضعة على السلع الغذائية المعروضة، وكذلك فإن هذه المحلات غير مزدحمة.
القاهرة بسكانها الذين يتجاوزون العشرين مليوناً، تحمل أطرافاً من سوق الغذاء الأوروبي والهندي، وتتفاوت النوعيات المعروضة وأسعارها من منطقة إلى أخرى، ومثل القاهرة مدن عربية أخرى كثيرة، والمظهر الأساسي الذي تشترك فيه المدن العربية هو الحساسية الشديدة للتقلبات في أسعار الغذاء، والتضخم الروتيني الذي تتحمله الأسرة العربية، والذي لا يتوازى مع زيادة مماثلة في الدخل، ولذلك تتزايد حصة المائدة من الدخل، أو تتقلص مفرداتها مع الوقت، ولكن تعبير المائدة، في حد ذاته ليس دقيقاً في حالة أكثر من سبعين مليون عربي يصنفون بين الجوعى، وعلاقتهم مع الطعام يمكن أن توصف بالمعقدة والصعبة والمضطربة، وتقبع اليمن والصومال في ظروف صعبة، تجعل الجوع قاسماً مشتركاً بين أكثر من نصف السكان في البلدين.
الجوع ظاهرة فجة وواضحة، ولكنه مثل الفقر يتدرج شيئاً فشيئاً ليغطي المزيد من الملايين تحت تصنيفات تلطيفية، مثل الفقر المدقع ومحدودية الدخل، وللجوع درجات مختلفة في المقابل، فسوء التغذية يلتهم سبعين مليوناً كذلك، ليصل عدد من يعانون من الجوع وسوء التغذية إلى ثلث مواطني العالم العربي، وسوء التغذية يشمل دولاً كثيرة، ويمكن أن تستثنى منه دول منطقة الخليج، وثمة تغذية غير صحية وغير كافية لبناء الإنسان المتفاعل والمنتج، ولا يمكن تقدير حدودها.

الجوع ظاهرة فجة وواضحة، ولكنه مثل الفقر يتدرج شيئاً فشيئاً ليغطي المزيد من الملايين تحت تصنيفات تلطيفية، مثل الفقر المدقع ومحدودية الدخل

هذه الوقائع تزايدت حدتها مع أزمة سلاسل التوريد في مرحلة كورونا، ومع انطلاق الحرب في أوكرانيا أخذت سيمفونية الجوع تسمع في أرجاء أوسع من العالم، ولكنها لم تصل إلى ذروتها بعد، صحيح أن معدلات التضخم وصلت إلى أربعة أو خمسة أضعاف معدلاتها التقليدية في أمريكا وأوروبا الغربية، ولكنها لم تخلق أزمة في الحاجات الرئيسية، فالمواطنون الغربيون لديهم بنود كثيرة في قائمة الرفاهيات يمكنهم التنازل عنها والمساومة بخصوصها، أما بالنسبة للمواطن العربي في العديد من الدول فوجود الطعام نفسه يصبح تحدياً، ونحن نتحدث عن مجرد الطعام، ونهمل فكرة الطعام الصحي والجيد.
عشت طرفاً من حياتي على تماس مع مجتمعات فقيرة، وكنت ألاحظ وجود من يشترون أقدام الدجاج بوصفها أرخص مصدر ممكن للبروتين الحيواني، وأعرف طبقات مختلفة يعتبر الدجاج أمراً مسلماً بوجوده مع اللحوم الحمراء والأسماك، وأسراً توفر دجاجتين لأربعة أو خمسة أفراد وأخرى تضع دجاجة واحدة لأسرة من ستة أفراد، والمستجد بعد الحرب الأوكرانية، أن الدجاج الذي يتغذى بصورة كبيرة على الذرة، التي تعد أوكرانيا بين كبار منتجيها في العالم، سيشهد زيادات سعرية تزيد من فجوة سوء التغذية تجاه بدائل أخرى. الدجاج الذي شهد ثورة واسعة في الإنتاج بعد دخول منطق التصنيع في مزارعه، كان حدثاً مهماً في التخلص من أزمات سوء التغذية، التي خيمت على المنطقة العربية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكانت ظاهرة لافتة لدرجة وصفها بكثير من العناية في مدونات الرحالة الغربيين.
اليوم تبدأ مظاهر أزمة الغذاء في التشكل، وتحاصر التجار والمستوردين الصورة الذئبية الاعتيادية، ويبحث المواطنون عن السماء وتدخلها بنهاية قريبة ووشيكة للحرب، ويواصلون الشكوى ويطالبون الحكومات بالتدخل، وتكاد جميع هذه الأفعال ضرباً من اللاجدوى في ظل توطن العلاقة الريعية بين الحكومات والمواطنين واقتصاد الجباية الذي لا يقوم على رؤى لتعزيز الموارد، خاصة في القطاع الزراعي الذي تحول مع تضخم المدن وسهولة إدارتها أمنياً وفنياً إلى نسي منسي، في أجندات التنمية العربية، إلا في حالات الاستعراض الكلاسيكية أمام كاميرات المؤتمرات، فيتم تداول المجاملات والاستغراق في الأكاذيب التي لا ترتقي لتصبح أحلاماً. موسيقى الجوع ستتحول إلى دموع وصرخات مكبوتة في المدى القصير، ولكن، وهنا الأخطر، ستلقي بآثارها على النمو الجسماني والنفسي والعقلي لعشرات الملايين من الأطفال، الذين لن يتمكنوا من الالتحاق بصورة منتجة بالأنشطة الاقتصادية والتنموية، لتستحكم حلقات الخسارة والفقد والهدر.
سلال الغذاء القديمة تركت لتواجه التصحر والتوسع السكاني الشره، والأدهى من ذلك تصحر العقليات وجفاف القرائح لدى المسؤول العربي، الذي يعتبر استمراره في منصبه هو الغاية المطلقة، التي تبرر جميع الوسائل حتى لو كانت هندسة تحمل الجوع والتضليل حول أسبابه لا مواجهته ودحره بعد أن أصبح وبصورة مزرية أحد عوائق التنمية في منطقة لا تنقصها عوامل النمو الطبيعي أو موارده.

*كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية