هواجس المخرج السويدي إينغمار بيرغمان في السينماتيك الفرنسية

حجم الخط
0

■ تحتفي السينماتيك الفرنسية في العاصمة باريس هذه الأيام بمرور مئة عام على ولادة المخرج السويدي إنغمار بيرغمان (1918-2007) في عروض استعادية لأفلام له، افتُتحت في 19 سبتمبر/أيلول وتمتد إلى 11 نوفمبر/تشرين الثاني، إذ تعرض مجموعة منتقاة من أفلامه العديدة، فبيرغمان عُرف بغزارة الإنتاج، إضافة إلى الستين فيلما للسينما والتلفزيون، له 172 إنتاجا مسرحيا، و300 نص مكتوب، و9 أطفال! وذلك حسب الموقع المرجعي عنه وهو لـ«مؤسسة إنغمار بيرغمان». إنما ما ستعرضه السينماتيك هو 45 فيلما إضافة لأفلام قصيرة له وأفلام أُنجزت عنه، ونقاشات، ومواد مكتوبة في موقع السينماتيك على الإنترنت، إلى جانب فعاليات متنوعة في المعهد السويدي في باريس تضم معرضا، للمناسبة ذاتها.

بدايات من المسرح

بدأ بيرغمان حياته مسرحيا، وبقي المسرح حاضرا في العديد من أعماله السينمائية لاحقا، شكلا ومضمونا، بما في ذلك نقله لأعمال مسرحية إلى السينما، حيث كان أمينا للمسرح في العديد من تجاربه وتحفه السينمائية، في النص والتصوير والحوارات بما فيها من معانٍ قد لا تحملها اللغة اليومية للحوارات السينمائية. يخطر لنا كمثال فيلم «ساراباند»، 2004، خاصة في مواجهة بطلته للكاميرا ومحادثتها للمُشاهدين كأنها على خشبة مسرح، إضافة إلى محدودية الشخصيات والمكان.

موضوعات بيرغمان

لبيرغمان نقد واضح في أفلامه تجاه المؤسسة الدينية، يتكرر بشكل رئيسي في أفلامه أو بشكل عَرَضي، أحد هذه الأفلام «فاني وألكسندر»، 1982، الواضح في نقده لأسلوب الحياة الديني، بما فيه من عنف نفسي وجسدي، ممارَسا على الطفلة فاني وشقيقها ألكسندر. ويمكن القول إن مقاربة نقدية مختلفة تماما حضرت في فيلم آخر وبعيد زمانيا (وأجمل وأعمق) هو «الختم السابع»، 1956، حيث جسد الموت ولاعَبه الشطرنج. وقد رفض بيرغمان فكرة «جهنم» كعقاب تتأسس عليه القيم الأخلاقية، فبالنسبة له الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية والحبية الدنيوية هي التي تؤسس لقيم الشراكة والعائلة، وفيلمه «مونيكا»، 1952، وثيقة سينمائية وفنية لهذه الأفكار. وبأفلامه يعبر المؤلف السويدي عن قلقه وأسئلته الوجودية الأكثر شمولا من مجرد رفض القيم الدينية أو تلك التي ترسخت مع سيطرة المؤسسات الدينية تاريخيا.

يصور  فيلم «توت بري» حكاية رجل يقترب من حتفه، حيث يتجاور معنى الوجود لدى الشخصية الرئيسية هنا، مع عبثية الحياة.

الثورية والتجريبية في هذه الأفكار نجدها في أحد أفضل أفلامه، أو أحد أفضل الأفلام في التاريخ، وهو «بيرسونا»، 1966، وفيه ارتداد عن التقاليد السينمائية التي ترسخت مع هوليوود في النصف الأول من القرن العشرين، وفيه كذلك ارتداد عن التقاليد المجتمعية في معنى العلاقات الحبية/الجنسية. وهذه القيمة الوجودية تتكرر كثيمة أساسية في العديد من أفلامه، خاصة في سنوات الخمسينيات التي شهدت أعظم أفلامه، حيث كانت مواضيعه الرئيسية هي الحب والموت والإجهاض والانتحار، والأدوار الرئيسية في ذلك كانت لنساء، لما يمكن أن يقدمنه من سحر على الشاشة، وجرأة ومبادَرة استثنائية، يُضاف إلى موقعها المُستضعَف في الواقع آنذاك (حتى اليوم!)، نذكر فيلمَي «أحلام» و«ابتسامات ليلة صيف»، وكلاهما أنتج عام 1955. وفي الموت نذكر فيلم «توت بري» 1957، الذي يصور حكاية رجل يقترب من حتفه، حيث يتجاور معنى الوجود لدى الشخصية الرئيسية هنا، مع عبثية الحياة.

هواجس بيرغمان

لبيرغمان هواجس تمتدد على طول سيرته الفيلمية، وقد أعدت السينماتيك فيديو خاصا بها، هي أولا النظر المباشرة (تجاه الكاميرا)، وكما أشرنا فهذه خاصية مسرحية، وهي كذلك من المحرمات التقليدية في السينما، التي كان بيرغمان من أوائل من كسرها وأمعن في تكسيرها لتصير هاجسا جماليا وثوريا، فأبرز النظرات المباشرة إلى الكاميرا/المشاهدين في تاريخ السينما نجدها في فيلمَي «مونيكا» و«بيرسونا». الهاجس الثاني هو المرآة، المتكررة كحضور مادي، لكن أساسا كموضوع رئيسية في أفلام عديدة له، وهي انعكاس لدواخل الإنسان وأفكاره وتمرداته، التي يسعى المجتمع والدين والتقاليد إلى كبتها. الهاجس الثالث هو الحسية، فالحب الحسي والجنس والمرأة كطرف أساسي في كل ذلك، مسائل حاضرة دائما. الرابع هو الطبيعة، كمكان غير متمدن، كامتدادات «غير حضارية»، لم يمسها الوعي الصناعي الإنساني، ولا الرأسمالية ومكائن الإنتاج، هناك حيث تجد النفس الإنسانية، لشخصياته، انسجاما غريزيا يتناقض حضوره مع الدين/الرأسمالية. الخامس هو المسرحَة، فالمسرح كما هو حاضر في الأسلوب السينمائي لبيرغمان، هو حاضر كعنصر أساسي في الحكاية، بعلاقة مباشرة مع المكان أو الشخصيات.

تلك النقطة البعيدة

أخيرا، يمكن لهذه الكلمات لبيرغمان أن تصف، لا أن تلخص، رؤيته للسينما، كفن، يقول: «ليس هنالك من فن يعبر كالسينما أفكارنا اليومية لتصل وتلامس أحاسيسنا، واصلا إلى أعمق نقطة في الغرفة المظلمة لأرواحنا». فثورية وتجريبية ووجودية ومواضيع هواجس بيرغمان السينمائية هي التي تُوصل أفلامه إلى تلك النقطة البعيدة في أرواح مُشاهدي أفلامه، وأفكارهم.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية