كان تفصيلاً لافتاً، عجيباً غريباً، مريباً بعض الشيء، أن يغيب علم الآثار عن سنة ونيف من عمر حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة أوّلاً، ثم توسيعها إلى الضفة الغربية ولبنان لاحقاً. صحيح أن استدعاء التوراة لم يتوقف منذ اليوم الأول، فاتخذ تارة صيغة الاستيهامات الأشدّ تزييفاً وتلفيقاً عند بنيامين نتنياهو وخزعبلات توظيف العمالقة، وتارة أخرى هبط به أمثال إيتمار بن غفير إلى درك تدنيس المسجد الأقصى. لكنّ الصحيح المقابل، أنّ دولة الاحتلال كانت بحاجة إلى مقتل زئيف ألريخ، المؤرّخ المزعوم والآثاري/ الجندي في جيش الاحتلال، الذي تسلل إلى بلدة شمع اللبنانية يحثّه هوس البحث عن حفريات توراتية؛ حتى تتأكد القاعدة القديمة مجدداً، بصدد الصلة المَرَضية بين الصهيونية والأركيولوجيا.
طريفة كانت جولات تبادل الأكاذيب بين: 1) رواية جيش الاحتلال الرسمية التي قالت إنّ ألريخ مدني وليس عسكرياً، ودخوله إلى منطقة قتال عسكرية صحبة رئيس أركان لواء غولاني حادث خطير يستوجب التحقيق؛ و2) رواية شقيق ألريخ، الذي أكد أنّ القتيل كان في مقام العسكري العامل، لأنه رافق قوات الاحتلال مراراً، وكانت مهمته هي التنقيب عن الآثار التي تدعم فكرة “إسرائيل الكبرى”؛ و3) رواية صحيفة “يديعوت أحرونوت” التي أكدت أنّ علاقته مع الجيش كانت وظيفية وفعلية تشمل الآثار وأبحاث التاريخ والجغرافيا في ما يُسمى “يهودا والسامرة”.
وأياً كانت الروايات التي تتقاطع في مفرداتها صنوف الأكاذيب والمزاعم كيفما اتفق، فإنّ السردية المحورية لا تنتهي إلى ما ينقض حقيقة كبرى أولى، دامغة وبصرية ومرئية، تشير إلى مقتل ألريخ وهو يرتدي الزيّ العسكري ويحمل المعدات القتالية؛ وحقيقة أخرى ثانية، دامغة بدورها، تقول إنه دُفن طبقاً للشعائر المعتادة المخصصة لقتلى جنود الاحتلال. هي، استطراداً، واقعة أخرى تُضاف إلى سجلّ عتيق لا يكفّ عن التضخم والتوسع، على نحو مَرَضي سرطاني يتفاقم ويتورّم؛ عنوانه أنّ المؤسسة الصهيونية انفردت عن العالم بأسره في تحويل علم الآثار إلى ديانة، تتجاوز بكثير علم الحفريات في التاريخ الغابر، وتذهب وظائفها أبعد من إضاءة الماضي أو استكشاف حلقات غامضة في السجلّ الإنساني. وكان نيل سيبرمان، مؤلف كتاب “نبيّ من بين ظهرانينا”، الذي يروي سيرة إيغال يادين “المحارب وعالم الآثار وصانع أسطورة إسرائيل الحديثة”؛ قد ساق عشرات الأمثلة على ذلك الهوس الآثاري؛ وساجل بأنّ التنقيب عن الآثار اليهودية في أرض فلسطين التاريخية تحوّل، في الفكر الصهيوني وفي عقائد مجموعات المستوطنين، إلى “ترخيص شعري للاستيطان الإسرائيلي المعاصر”. الرقيمات والألواح المكتشفة تنقلب إلى ما يشبه عقود ملكية العقارات، مع فارق أنها عقود مقدّسة مكتوبة بمداد الآلهة؛ ولا عجب أنّ ألريخ مات مستوطناً، مصاباً يهستيريا “اكتشاف” قلعة أثرية، ليس من الصعب تلفيق تسميتها التوراتية، والتمهيد لتحويلها سريعاً إلى… بؤرة استيطانية.
وقد انحصرت مهمة علم الآثار الصهيوني في إثبات هذا الزعم أو ذاك حول تاريخ اليهود في فلسطين التاريخية، وليس التنقيب عن الموادّ الناقصة في تاريخ يحتمل درجة علمية نسبية من الإجماع أو الاختلاف، كما هي الحال عند العثور على أي لُقى آثارية في أية بقعة على وجه البسيطة. وذات يوم، كان المدير العام للآثار والمتاحف في دولة الاحتلال قد قطع ذلك الشوط القصير الأخير بين الحلم الأقصى والهستيريا المفتوحة، حين اقترح إعادة تحقيب التاريخ الإنساني على النحو (اليهودي، الحصري!) التالي: الحديد سوف نسميه “عصر بني إسرائيل”، والهيلليني نطلق عليه اسم “العصر الحشموني”، ولن يكون الروماني إلا “عصر الميشنا”، وللبيزنطي رفاه اسم “العصر التلمودي”…
هذا على امتداد أرض فلسطين، فكيف يشتغل مزيج الحلم والهستيريا عندما يتصل الأمر بمدينة القدس، مداخلها وبوّاباتها وتلالها! تسعة أعشار اليهود يتساوون في الموقف من يهودية القدس المطلقة: الديني المتشدد إلى جانب العلماني المعتدل، واليميني المستنير في ركاب اليساري الليبرالي، والعمدة الليكودي اليميني إيهود أولمرت، مع العمدة العمّالي الليبرالي تيدي كوليك، صحبة العمدة المتطرّف أوري ليوبينسكي الذي يدعو إلى… هدم المسجد الأقصى، ليس أقلّ! وليست مفارقة، البتة، أنّ “الحمائمي” كوليك كان المسؤول عن عمليات التهويد الأولى، التي أعقبت مباشرة احتلال القوات الإسرائيلية للشطر الشرقي من المدينة. آنذاك، بدأ كوليك بإلغاء عبارة “حائط المبكى” لأنّ زمن الدموع قد ولّى إلى غير رجعة، والجدار يخدم الآن في استذكار الخلاص والانعتاق والحرية، كما عبّر. بعد ذلك، انتقل إلى تنظيف الفضاء الجغرافي المحيط بالحائط الغربي، فهدم حيّاً عربياً بأكمله بين ليلة وضحاها، وأقام الساحة الحالية كي يُتاح للجنود الإسرائيليين حمل المشاعل والطواف من حول الجدار قبيل تخريجهم وزجّهم في جرائم الحرب. بيد أنّ مقتل ألريخ يخدم أيضاً في إعادة تأكيد تلك الخصوصية الفريدة التي تمتعت بها هذه الأرجاء المشبعة بالتاريخ، والتي لم تتبدّل جوهرياً رغم تعاقب الشعوب والديانات والعقائد والغزاة، على اختلاف مشاربهم ومطامعهم. هذه بقاع يسكن التاريخ في كلّ شبر من أرجائها، فلا يكاد ينقلب فيها حجر إلا ويتكشّف عن صفحة غابرة تضيء الماضي، ثم تمتدّ إلى الحاضر، قبل أن تخيّم على المستقبل أيضاً.