البروفيسور سو بلاك، الخبيرة العدلية وأستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة دندي، اسكتلندا؛ لم تتردد في إطلاق صفة الهولوكوست على الصور الوحشية التي تسرّبت، مؤخراً، حول ضحايا التعذيب في سجون النظام السوري؛ أو، على وجه الدقة، في زنازين المخابرات العسكرية وحدها، وليس سواها من عشرات فروع أجهزة بشار الأسد الأمنية. إنّ الخنق، والضرب، والتعريض للكهرباء، والتجويع حتى الموت، وسواها من أفانين التعذيب التي تعرّض لها المعتقلون؛ لا تُقارَن إلا بما شهدته معسكرات الموت النازية، من وجهة نظر بلاك، التي شاركت في فريق درس بضعة آلاف من أصل 55 ألف صورة تمكّن ‘قيصر’، شاهد العيان والمصوّر الفوتوغرافي السوري، من تهريبها إلى الخارج، بعد انشقاقه.
‘لم أشهد صوراً أشدّ فظاعة، طيلة 30 سنة من عملي في تحقيقات مماثلة’، تقول بلاك، التي سبق لها أن عملت على جرائم الحرب في كوسوفو، وكذلك في التحقق من هويات ضحايا كارثة تسونامي؛ وتتابع، في حوار مع صحيفة ‘سكوتسمان’: ‘هذه لقطات مريعة’، خاصة تلك التي تخصّ سجناء قضوا تجويعاً، و’كان من الصعب على المرء أن يتوقع إمكانية حدوث هذه الفظائع، على هذا النطاق. الأمر يتجاوز الحدود حقاً. صحيح أنّ أعداد الضحايا ليست جديدة عليّ، لكنّ حجم العنف هو الجديد. ولا بدّ أنّ العذاب الذي لقيه هؤلاء كان على درجة رهيبة يستحيل وصفها’. وفي تصريحات أخرى، وبعد وصف تفصيلي لصنوف التعذيب كما تتضح على الأجساد، تستخلص بلاك التالي: ‘لقد عدنا مقتنعين بأنّ ما رأيناه يبرهن على أنّ عدّة آلاف من الأفراد قد ماتوا تجويعاً، أو خنقاً، أو ضرباً، أو تعذيباً’.
والحال أن هذه ليست المرّة الأولى التي أتاحت استخدام مفردة الهولوكوست في توصيف جرائم النظام السوري، وكانت المناسبة السابقة هي الهجمة الكيميائية على الغوطتَين الشرقية والغربية، في الساعات الأولى من فجر 21 آب (أغسطس) الماضي. آنذاك، جرى هذا الخطاب الاتهامي على لسان أمثال جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي؛ ودافيد كامرون، رئيس الوزراء البريطاني؛ وكانت المقارنات تحيل إلى مشاهد الضحايا من جانب أوّل، وإلى مخاطر وقوف العالم مكتوف اليدين أمام أيّ هولوكوست جديد، من جانب ثانٍ. أمّا الاعتبارات التي سوّغت ذلك الخطاب، تحديداً، فقد كانت مناخات التصعيد المقترنة بالتحضير لضربة عسكرية ضدّ النظام السوري؛ وسرعان ما تبدّلت الاعتبارات، وتراجعت المقارنات، حين ركع الأسد وسلّم ترسانته الكيميائية، فبادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى صرف النظر عن الضربة.
غير أنّ المقارنة مع الهولوكوست لم تمرّ على نحو عابر، إذْ اثارت زوبعة احتجاجات لدى عدد من الكتّاب والمعلّقين اليهود، في أمريكا بصفة خاصة، غنيّ عن القول؛ اتكاءً على ذلك الأقنوم المقدّس المبجّل، الذي لا يرى وجهاً للمقارنة بين الهولوكوست وأيّ، وكلّ، وقائع العذاب البشري على مرّ التاريخ، بما في ذلك المذابح أو المجازر أو الإبادات الجماعية. وهكذا ـ بالأمس في مناسبة الهجمة الكيميائية، واليوم عند افتضاح صور الآلاف من ضحايا التعذيب ـ يخبرنا البريطاني بول أوستن مرفي أنّ 11,000 ضحية اليوم، وقبلها 1400 في الغوطتين، بما في ذلك النساء والأطفال، هي ‘أعداد موتى أكثر ممّا ينبغي’، بالفعل؛ لكنها لا يجوز أن تصنع أيّ هولوكوست جديد، أو تُقارَن بالهولوكوست… الوحيد! سوى هذا، يضيف العبقري، لو كان ‘الجهاديون’ هم حكام سوريا، أما كانوا فعلوا بالمسيحيين والشيعة أسوأ ممّا يفعل الأسد!
حال اليوم، هذه، تردّنا إلى أخرى، في نيسان (أبريل) 2012؛ حين أعلن أوباما، أثناء زيارة إلى متحف الـ’هولوكوست’ في واشنطن، فرض عقوبات على الجهات التي تزود سوريا وإيران بالوسائل التكنولوجية المساعدة على تسهيل انتهاكات حقوق الإنسان في البلدين. ‘ليست السيادة الوطنية رخصة للحكام كي يذبحوا شعوبهم’، قال أوباما وهو يقصد الإشارة إلى ‘أي مجنون ينتهك حقوق الإنسان، ويرتكب الفظائع، والإبادة، وأعمال القتل الجماعي’؛ واعداً الشعب السوري بـ’مواصلة الضغط’ على الأسد، بهدف ‘عزل نظامه أكثر’، وفرض مزيد من العقوبات، والتعاون مع ‘أصدقاء سوريا’. ولكي يبرّر قليلاً، أو في المستوى الأقصى الذي كان متاحاً بين يديه في واقع الأمر، تابع يقول: ‘بينما نحاول أن نعمل كل ما نستطيع، لا نقدر أن نسيطر على كل الأحداث. ونحن نحاول في سوريا، علينا أن نتذكر أنه رغم كل الدبابات، وكل القناصين، وكل التعذيب، لا يزال السوريون يتحدّون في الشوارع. ولا يزالون مصرّين على إسماع مطالبهم للعالم. إنهم لم يستسلموا، ولهذا فإننا نحن أيضاً لن نستسلم’. ثمّ لكي يذهب أبعد، أخيراً، أضاف أوباما أنّ العقوبات الجديدة خطوة أخرى ‘نحو اليوم الذي نحن متأكدون من أنه آتٍ، وهو يوم نهاية نظام الأسد الذي يذبح الشعب السوري’. بعد بضعة أشهر، كان نظام الأسد يستخدم الأسلحة الكيميائية، استكمالاً لسلسلة من المذابح والمجازر وعمليات القصف الوحشية!
بعد سبعة أشهر، في غمرة هذا التسابق على استحضار الهولوكوست أو تغييبه، سوف يحين الدور على إيلي فيزل، الأمريكي ـ الرومانيّ الأصل، الناجي من معسكر أوشفتز ـ بيركيناو، القيّم (بقرار تعيين ذاتيّ!) على تراث الهولوكوست، حامل نوبل السلام للعام 1986 (لأنه ‘الرسول إلى الإنسانية’ كما عبّرت اللجنة النروجية)، ومؤلف قرابة 54 كتاباً في المذكرات والتاريخ المقالة والرواية. وكان فيزل قد وقّع مقالة في صحيفة ‘واشنطن بوست’، تتساءل عن كيفية إيقاف ‘المجزرة السوريا’، بدت مدعاة سلسلة من الأسئلة الارتيابية: كيف يستقيم أن يأتي الإنقاذ من هذا الرجل بالذات، نصير إسرائيل (التي لا يطيب لها إسقاط النظام السوري، في المدى المنظور على الأقلّ)، المدافع الأعمى عن سياساتها واحتلالاتها وحروبها؟ وهل ثمة صلة ما، من أيّ نوع، يقيمها فيزل بين عذابات السوريين، وعذابات معسكرات الاعتقال في أوشفتز أو داخاو أو بوخنفالد؟
وما حقيقة صحوة ضمير فيزل، إذا جاز اعتبارها هكذا، بعد طول صمت على عشرات المجازر التي ارتكبها النظام، وشكّلت ما يقترب من هولوكوست بطيء مستديم، مفتوح ومتدرّج؟
وصفة فيزل السحرية، وبعد تسفيه حلول أخرى مثل العقوبات الاقتصادية، وطرد سفراء النظام، واستبعاد التدخل العسكري الأمريكي (لأنّ ‘الشعب الأمريكي تعب من شنّ الحروب البعيدة’، و’العائلات الأمريكية فقدت أكثر ممّا ينبغي من الأبناء والبنات في نزاعات نائية’)؛ لا تُبقي للسوريين إلا بصيص الأمل، شبه الوحيد، التالي: ‘لِمَ لا ننذر الأسد بأنه، ما لم يوقف السياسة الإجرامية التي ينخرط فيها، سوف يُلقى القبض عليه، ويُحال إلى محكمة الجرائم الدولية في لاهاي، وتُوجّه إليه تهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية. مثل هذه التهمة سوف تثبط عزيمته. وسوف يخسر كل دعم، وكل تعاطف، في طول العالم وعرضه. ولن يدافع عنه أي شخص شريف. ولن تقبل أية أمّة بمنحه الملاذ…’!
هل كان فيزل يمزح؟ كلا، بالطبع. هل كان جادّاً في ما يقول؟ ليس تماماً، وإنْ كان اختلاط الجدّ بالهزل مسألة فيها نظر هنا. أكان صادقاً، في مشاعره تجاه محنة السوريين؟ كلا، وألف كلا! أبناء سوريا يعرفون أنه ما من جهة (في سياق ما يقصده فيزل، على صعيد ‘المجتمع الدولي’ وأشباهه من مسميات) سوف تبادر إلى اتهام الأسد، فكيف باعتقاله؛ وثمة لائحة مكشوفة من الأمم التي ستواصل الوقوف إلى جانب نظامه، وستمنحه الملاذ؛ ومثلها لائحة الذين سيتابعون التعاطف معه، سرّاً أو علانية، ومعظمهم سيأتي من صفوف ‘الممانعة’ الزائفة و’اليسار’ المتواطىء؛ إذا وضعنا جانباً أصحاب المصلحة، على امتداد الديمقراطيات الغربية، في بقاء نظام تعايشوا معه طيلة أربعة عقود ونيف، وخبروا ما وفّره من أمن على طول خطوط الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية.
وماذا عن الهولوكوست في سوريا، التي قضى قرابة 200.000 من بناتها وأبنائها على يد نظام همجي وبهيمي لم يعرف له التاريخ مثيلاً، حتى في ذروة العربدة النازية، وبالقياس إلى أقصى ما ارتكبه الرايخ الثالث من وحشية ضدّ البشرية؟ وماذا، في ضوء الـ55 ألف صورة جديدة، وخلاصات أمثال البروفيسور سو بلاك حول طابعها الهولوكوستي الصريح؟ سوف نجد الكثير من تنويعات نظرية فيزل، التي ترفض المقارنة بين الهولوكوست وأيّ وكلّ مآسي الإنسانية، قديمها وحديثها: من إبادة الهنود الحمر (قرابة 70 مليون قتيل)، إلى مذابح رواندا ربيع 1994 (قرابة مليون قتيل)، مروراً بما جرى ويجري في فلسطين وأفغانستان والعراق. هنا يجري إسدال ستار التضليل (حول خطف الإسلاميين للانتفاضات العربية عموماً، والانتفاضة السورية خصوصاً وأوّلاً)، لكي تشتغل مطاحن استراتيجيات التأثيم (التي لا تشهد تسويد صفحات الشعوب الثائرة، تحت أكاذيب الأسلمة والتشدد الأصولي والسلفية والعداء للسامية… إلا لتقترن بتبييض صفحات الطغاة).
وليس الأمر أنه، وأمثاله، لا يبصرون جرائم الحرب بأمّ الأعين؛ بل أنّ المنطق، عندهم، يسير هكذا، ببساطة عجيبة: ‘أوشفتز تظلّ فريدة في التاريخ المسجّل لأنها انطوت على إبادة شعب بأكمله، حتى آخر طفل وآخر أسرة وآخر نفس. لا أحد سيقنع الثاني بأن رادوفان كراجيش وراتكو ملاديش، على قسوتهما، يسعيان لإفناء جميع المسلمين حتى آخر مسلم’؛ والحال ذاتها بخصوص الأسد، تجاه بنات وأبناء سوريا، شيباً وشباباً، أطفالاً ونساءً ورجالاً. لكن فيزل لم يكفّ يوماً عن اطلاق صفة ‘الشعب’ على ضحايا اليهود، وصفة ‘المسلم’ أو ‘السنّي’ أو ‘العلوي’ أو ‘الشيعي’ على ضحايا سوريا، وقبلها العراق، وقبلهما كوسوفو. ولا غرابة في أنّ الكاتب الأمريكي اليهودي المعروف نورمان فنكلشتاين، في كتابه المتميز ‘صناعة الهولوكوست’، أطلق على فيزل لقب ‘المهرّج المقيم في سيرك الهولوكوست’.
ومَن يقرأ خطاب وليد المعلّم، وزير خارجية النظام، في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر جنيف ـ 2؛ لن تفوته، وسط تزاحم الأكاذيب واحتشاد الأضاليل، ذلك التودّد الضمني إلى خطاب أمثال فيزل ومرفي؛ بغية التعتيم على، وتغطية، الهولوكوست السوري الذي تفضحه البراهين المادية الساطعة، وخلاصات البروفيسور سو بلاك وسواها من أصحاب الضمائر اليقظة.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
كل من يقف مع النظام السوري هو شريك بالجريمة بحسب العرف الدولي الجنائي المتعارف عليه عالمياً … كل من يتستَر على مجرم أو يخفي حقائق أو يعمد للتضليل فهو شريك بالجريمة.