بالنظر للأهمية القصوى التي يتميز بها البعد الثقافي في حياة الشعوب، سنكون مدعوين لترجيح القول بأولوية الهوية الثقافية، مقارنة بأي هوية أخرى، تتخذ من البعد العرقي، اللغوي أو الديني إطارها المركزي، الذي يستدل به على خصوصيتها. ذلك أن البعد الثقافي، هو الذي يساهم بشكل فعال في تطوير الوعي بمجموع المقومات التي تتشكل وتنبني بها الشخصية المجتمعية، بصرف النظر عن الأنساق التي تندرج فيها، ما دامت هذه المقومات، مهيأة للتطور، والتنامي والتعدد والتنوع، بفعل انصهارها في حركية العمل الثقافي، ذلك أن الحديث عن أي مكون من مكونات الهوية، بمعزل عن توافر الشرط الثقافي، هو محض هذيانات طائشة، خالية من أي رؤية عقلانية وموضوعية.
وبالنظر إلى تعدد المجالات التي تتأكد فيها صدقية هذه القناعة، فإننا سنتوقف عند أكثرها دلالة، المعبر عنها بتلك العلاقة التقليدية التي تربط الإنسان العربي عادة بأرضه، وبوطنه، حيث تهيمن حالة طافحة من الولاء الروحي، التي لا تستند بالضرورة إلى تبرير سياسي مقنع، أو تزكية عقلانية.
طبعا، نحن لا نطعن في أهمية البعد الروحاني للولاء، إلا أنه «بعد» لا يلبث أن يصبح موضع تساؤل، فور تناولنا له ضمن سياق الأمية الضاربة أطنابها في الربوع. بمعنى أن التفاعل الروحي لا يمكن أن يحظى بشرعيته وأهميته، إلا بتواز مع التفاعل العقلاني المعزز بإوالياته المعرفية والثقافية، خاصة أن العلم الدقيق بمجموع حيثياته ومواصفاته الموضوعية، هو الذي ينبغي أن يكون حاضرا في خلفية التعاطف النفسي والروحي، باعتباره تتويجا لمكسب التعرف، وانتشاء باطنيا بحصيلته. غير أن هذا التعاطف، لا يلبث أن يفقد صلاحيته، حينما يكون معزولا تماما عن الجدل المنطقي والمعرفي، باعتبار أن القيم الروحية، تظل هي أيضا بحاجة دائمة للتأطير الفكري والثقافي، كي لا تخطئ الطريق إلى أهدافها، نتيجة وقوعها تحت التأثير السلبي للاندفاع الانفعالي.
وفي اعتقدنا أن تضخم حالة الولاء الروحي، يتضاعف تلقائيا بتواز مع استشراء حالة الأمية، وهي الوضعية التي كانت سائدة ومتفشية بوتيرة كبيرة، إبان سنوات الاحتلال الاستعماري، هناك كما هنا. وغني عن الذكر، أنها مرحلة عرفت بندرة مؤسسات التعليم والتأهيل، التي تقوم عادة بأدوارها الطلائعية في إعداد بنيات ذهنية، قادرة معرفيا على فهم واستيعاب خصوصية اللحظة، من أجل التفاعل معها على ضوء الأهداف المرسومة، والمخطط لها. كما أنها مرحلة خلت من الفضاءات الثقافية الهادفة، التي تعتبر بمثابة أوراش مفتوحة على الفعاليات المتميزة بقوتها الاقتراحية في مختلف المجالات، ما ساهم في توسيع مساحة الأمية والتجهيل التي كان من نتائجها استفحال النزوعات الغيبية، وتمكنها من الوعي المجتمعي الغارق في الأمية. كما هو معلوم، فإن هذه المرحلة تميزت بإشكالاتها التي تحولت في العقود التالية لما بعد الاستقلال، إلى مادة أكاديمية متعددة الاختصاصات والمشاريع، والمرجعيات، بغاية إضاءة ما كان معتما من أسئلتها، التي ستظل باستمرار موضوعا خصبا للمقاربة والسجال، على أساس ما يشوبها من تناقضات واختلالات لا تني تؤجج صراعاتها المفتوحة بين التنويريين والسلفيين، سواء على المستوى السياسي، الفكري أو الإبداعي. غير أن ذلك، لن يمنعنا من استخلاص بعض تداعيات استفحال آفة الأمية في المرحلة الاستعمارية، التي يمكن اختزالها، في معالجة الإشكاليات المادية بآليات غيبية.
وما يهمنا تحديدا في هذا السياق، هو إثارة الانتباه إلى ظاهرة توظيف المرجعية الدينية في تحويل إشكالية تحرير الوطن، إلى مطلب مثالي ومقدس، تؤجج جذوته العواطف الجامحة، والحماس الملتهب الذي تغلب عليه المسحة الروحية.
إن الوطن من هذا المنظور، يتحول إلى أرض مقدسة، وإلى ظل من ظلال السماء، أو بالأحرى إلى جنة مغتصبة، وبالتالي فإن استعادته لا يمكن أن تتم إلا على أساس تعبئة جهادية واستشهادية، وليس على أساس التحسيس الجماهيري بأنه ضحية اغتصاب سياسي اقتصادي واجتماعي. وضمن هذه التحشيد التحفيزي والتعبوي، تنمحي كل رؤية لها صلة ما بالعمق الثقافي، السياسي والاقتصادي. فتبعا لذلك، يأخذ المنظور الديني شكل بطارية سحرية، تتحكم آليا في استشراف الآفاق المرسومة لهوية وطنية بأثرها الرجعي. ومن المؤكد أن هذا الاختيار يمارس دوره الفعال في تصعيد المقاومة، وفي التعجيل بطرد المستعمر، عدا عن أن الغريب في الأمر، هو أن عملية التأطير الجماهيري ضمن هذا الاختيار، كانت تتم من قبل نخب «الحركات الوطنية» لعلمها بسرعة مردوديتها، وقوة فاعليتها. فبالنظر إلى الأمية والجهل المهيمنين على المجتمع، فإن الخطاب الوحيد الذي يمكن أن يلعب دورا طليعيا في استنهاضه للهمم، هو العزف على وتر الجهاد، أي الوعد بالجنة وبالشهادة. ومن المؤكد أن هذا الحلم من شأنه مضاعفة شراسة المقاومة، أكثر من أي عنصر آخر، لذلك، فإن الروح الوطنية تكون بمثابة المعادل الموضوعي للروح الدينية، وبالتالي فإن محبة الوطن ومقاومة المستعمر، هي امتداد طبيعي للالتزام بقيم العقيدة.
إن مسؤولية هذا الفراغ الكبير تتحملها النخب العالمة والمثقفة، التي لم تكن معنية أبداً بمبادرة المزاوجة بين المنهجيتين، على أرضية عقلانية وحداثية، من شأنها بلورة رؤية مستقبلية في التعامل العملي والبراغماتي مع الهوية الوطنية.
هكذا يتداخل الحفاظ على الهوية، مع حب الوطن، وقداسة العقيدة، حيث يعتبر التفريط فيه ضربا من التفريط المباشر في هذه المقومات. من هذه المنطلقات، يتم التركيز على إلهاب حماس المواطنين، ليعتبر كل من يتجاهلها أو يشكك في مصداقيتها، خارجا عن قداسة الإجماع، ومنحازا لزمرة «الضالين» «المارقين» و«الخارجين» عن الدين. ومهما كانت طبيعة المقاومة التي تدعو إليه هذه «الزمرة المنحرفة» الخارجة عن الإجماع، فإنها ستظل موضوع شبهة من قبل القوى «المؤمنة». ومن المؤكد أن النخب السياسية المشرفة على التحريض والاستقطاب، والتأطير الجماهيري، تجد ضالتها الكبرى في هذه المعادلة، التي يتحقق من خلالها الإجماع، والتفاعل المشترك والنموذجي، فضلا عن تقلص مساحة الإقناع، إذ بالنظر إلى الأمية السائدة والمستشرية في النسيج المجتمعي العام، سيكون من العبث بالنسبة للقيادات أن تستند في تأطيرها لخلايا المقاومة على أسس فكرية أو اقتصادية، قد تؤدي إلى تبلور وجهات نظر متعددة، من شأنها إحداث ما لا حصر له من التوترات والتشنجات النظرية، المنعكسة سلبا على نقاء الاستجابة وشدة حماسها، لأن الأمية تقنع بحلم الفوز بالجنة الموعودة، عبر اختيارها الطريق الأكثر مصداقية من وجهة نظرها، ألا وهو طريق الجهاد، وطريق الشهادة، التي يتحقق فيها فضل الاغتسال من أدران الدنيا وذنوبها. في ما يظل الإقناع العقلاني بوجوب الدفاع عن الوطن بصفته فضاء مجتمعيا وسياسيا واقتصاديا، يحتاج إلى شروطه التي تظل باستمرار مؤجلة، بالنظر إلى افتقار الشرائح الاجتماعية، إلى الإواليات الثقافية، التي تمد العقل بطاقة التفكير والاجتهاد.
إن ما يعنينا من هذا الاستنتاج، هو أن الطابع الغيبي لهذا العامل، ظل مهيمنا على البنية الذهنية للشعوب، حتى بعد حصولها على استقلالها، نتيجة تحوله إلى مبدأ لا يتقبل أي تشكيك، بفعل تجذره العميق في الذاكرة، وفي الممارسة الحياتية، على امتداد قرون وقرون، دون أن تفلح أي من منجزات التحديث في المس بشرعيته. ولعل السبب في ذلك، يعود إلى حضور ذلك الفراغ المهول في التعامل مع الهوية الوطنية، من وجهة نظر عقلانية وثقافية، بما هي رؤية تحليلية وبنائية للواقع، وللزمن التاريخي، في علاقته بالذات، وبالآخر.
إن مسؤولية هذا الفراغ الكبير تتحملها النخب العالمة والمثقفة، التي لم تكن معنية أبداً بمبادرة المزاوجة بين المنهجيتين، على أرضية عقلانية وحداثية، من شأنها بلورة رؤية مستقبلية في التعامل العملي والبراغماتي مع الهوية الوطنية.
هذه النخب، تجد نفسها حاليا مكبلة تماما بالتصورات المكرسة، كلما دخلت في صراع ما مع السلط الحاكمة، حيث تكون هي أيضا، ضحية المفاهيم القداسية التي كانت قد ساهمت في تكريسها وتعميمها، ما يحول بينها وبين اختراقها لحاجز الرؤيا القداسية، المعززة بروحها الدينية، من أجل زرع بذور خطابات تنويرية، كفيلة بتجديد علاقة المواطن بوطنه، وهو ما يلاحظ بالنسبة لأجيال ما بعد الاستقلال، التي فشلت في تأسيس رؤية علمانية للنضال، على الرغم من هوسها بتجاوز الرؤية الجهادية، باعتبار أنها هي أيضا، وقعت في خطأ إضفاء طابع قداسي على مذاهبها المادية والتاريخية المستعارة من منجز التجارب الثورية، مكرسة بذلك استمرارية التوجهات الدينية، بشكل معكوس، بمعنى أن الشعارات التي دأبت على توظيفها خلال صراعها مع السلطة، كانت تفتقر إلى العمق الثقافي والمعرفي، خاصة حينما تتخذ منحى عدوانيا تجاه الرؤية الدينية، ما ييسر مأمورية نبذها بدورها، من قبل التيارات الأصولية، الخبيرة بتوظيف آليات تنشيط وتجنيد الضمير المجتمعي، كي يتصدى للقيم الحداثية، باعتبارها أداة «تدميرية» لمقومات «الهوية» ببعدها العقدي و الوطني الممهور بختم القداسة.
شاعر وكاتب من المغرب