تعتبر هياكل مدينة بعلبك اللبنانية (85 كلم شمال شرق بيروت) صرحا حضاريا كبيرا يكتنز الدروس التاريخية والثقافية لكل الأجيال المعاصرة، نظرا لسطوع أنوارها الكاشفة لأحداث تاريخية غابرة، ستظل محطة لاهتمام الإنسان وبحثه عبر كل العصور.
والداخل إلى هياكل بعلبك لا يسعه إلا الذهول لما يشاهده من ضخامة البناء والهياكل والأعمدة وارتفاعها الشاهق على دقة في البناء والزخرفة والفن.
اكتسبت هياكل بعلبك الأثرية شهرتها بفضل تاريخها القديم الذي يعود إلى ما قبل العهد السلوقي، غير ان الرومان أضافوا إلى الهيكل ووسعوه إلى ان أصبح بناء فسيحا تحيط به هالة من روعة وجمال، أما العرب فجعلوا منه قلعة يتحصنون بها وقد عدّها العرب من عجائب الدنيا السبع.
أقيمت هياكل بعلبك على تل أثري يرقى إلى أواخر الألف الثالث ق.م على الأقل. وعلى الرغم من الغموض الذي يشوب تاريخ الموقع، بسبب عدم إجراء الحفريات التي توضح تعاقب المستويات السكنية التي يتألف منها التل، فإنه يكاد يكون من المؤكد أن قمة التل أعدت في غضون الألف الأول ق.م لتكون مكان عبادة يتألف من حرم يتوسطه مذبح.
بدأ العمل في بناء الهياكل في أيام الإمبراطور أوغسطس في أواخر القرن الأول ق.م وكان الانتهاء منه في أواخر عهد الإمبراطور نيرون (37-68 ب.م.) أما البهو الكبير، بأروقته وإيوانه ومذابحه وأحواضه، فقد بدأ العمل فيه وانتهى في غضون القرن الثاني ب.م وقد شهد القرن الثاني أيضاً بدء العمل ببناء الهيكل الصغير المنسوب إلى الإله باخوس. أما القرن الثالث، وفي عهدة الأسرة الساويرية (193-235 ب.م) على وجه التحديد، فقد شهد إقامة الرواق المقدم والبهو المسدس. ويبدو أن الأعمال الأساسية التي تناولت هذين الصرحين، وكذلك الهيكل المستدير المنسوب إلى الزهرة قد تم إنجازها في أواسط القرن عينه. بيد أن جميع أعمال الزخرف والنقش وغيرها من الترتيبات الثانوية لم تكن بعد قد انتهت في بدايات القرن الرابع عندما قام الإمبراطور قسطنطين الكبير بإعلان مرسوم «ميلانو» الشهير عام 313 الذي اعترف بالمسيحية ديانة رسمية في الدولة. فتعطل العمل في معابد بعلبك، بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على البدء به. وما أن شارف القرن الرابع على الانتهاء حتى كان الامبراطور ثيودوسيوس يغلق المعابد ويدمر مذابحها التي كانت تعتبر أقدس مقدساتها، ويقيم على أنقاضها، في وسط البهو الكبير، كنيسة عظيمة، ما تزال آثار محاريبها محفورة في الدرج المؤدي إلى الهيكل الكبير، وقد كانت في حينه تتجه صوب الغرب.
وعلى أثر الفتح العربي عام 636 م تحولت هياكل المدينة إلى قلعة، وتوالي الزمن على بعلبك، فانتقلت من يد الأمويين إلى العباسيين فالطولونيين والفاطميين والأيوبيين إلى أن نهبها المغول واستردها منهم المماليك عام 1260.
يتألف مجمع هياكل بعلبك من ثلاثة صروح رئيسية هي: معبد جوبيتر الكبير والمعبد الصغير المنسوب إلى باخوس والمعبد المستدير المنسوب إلى الزهرة، وهناك بقايا معبد رئيسي رابع كان يقوم فوق تلة الشيخ عبدالله إلى الجنوب من مدينة بعلبك.
الهيكل الكبير أو معبد جوبيتر
وكان المعبد الكبير مكرساً لعبادة الثالوث البعلبكي في صيغته العلنية التي لم تكن ممنوعة على أحد. وكان هذا المجمع الضخم يتألف من أربعة أقسام رئيسية هي: الرواق المقدم، وكان يشكل المدخل العمائري، يليه البهو المسدس، فالبهو الكبير فالهيكل.
ويتألف الرواق المقدم من أبنية أشبه ما تكون ببوابة محصنة أقيم على طرفيها برجان يصل بينهما رواق يرتكز على صف من اثني عشر عموداً من الغرانيت، وأمامها درج عظيم به بنية نصف دائرية ذات مقاعد حجرية كانت معدة لإقامة بعض الاحتفالات التمهيدية. وكان هذا الرواق مزيناً بالتماثيل وكان في جداره الداخلي ثلاثة أبواب، بينها أدراج لولبية يصعد منها إلى سقف الرواق والبهو المسدس الذي يليه.
تفضي أبواب الرواق المقدم الثلاثة إلى البهو المسدس، وهو فناء مكشوف للشمس تحيط به ستة أروقة ترتكز على ثلاثين عموداً من الغرانيت. وفي نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الخامس، سقف البهو بقبة نحاسية مطلية بالذهب بعد تحويله إلى كنيسة. ويستفاد من بعض المصادر أن هذه القبة قد اقتلعت من موضعها ونقلت إلى بيت المقدس لتنصب على الصخرة.
أما البهو الكبير فيبلغ طوله 134 متراً وعرضه 112 متراً ويحتوي أهم البنى الدينية وأقدسها وقد حل في غضون القرن الثاني محل المشارف التي أقيمت في الموضع عينه في الفترات السابقة. ونظراً لكونه يقوم على تل اصطناعي يمثل تراكم المستويات السكنية التي تعاقبت في الموقع، فقد عمد المهندسون إلى تدعيمه مخافة أن ينهار بعض أجزائه أو ينزلق بعضها الآخر تحت وطأة الأثقال التي كان من المفترض أن يحملها. وتمثلت عملية التدعيم هذه بإقامة أقبية ضخمة لحصر جوانبه الشرقية والشمالية والجنوبية، فيما كانت دكة الهيكل تحصره من الجهة الغربية. بالإضافة إلى وظيفتها هذه، كان من شأن تلك الأقبية أن تستعمل كممرات سفلية ومستودعات وإسطبلات، فيما استعمل ظهرها لحمل الأروقة والإيوانات المحيطة بالبهو. ويبلغ عدد هذه الإيوانات اثنا عشر إيواناً، أربعة منها على شكل نصف دائرة وثمانية على هيئة مستطيل، وجميعها مزين بمشكوات كانت مأهولة بالتماثيل.
وترتفع في وسط البهو الكبير بُنيتان رئيسيتان، إحداهما تتمثل بالمذبح، وهي الأقرب إلى الهيكل، فيما تتمثل الأخرى ببرج ضخم لم يبق منه إلا بعض مداميكه السفلى. ويشكل هذا البرج أقدم أبنية البهو عهداً، إذ إنه يعود إلى النصف الأول من القرن الأول، أي إلى الفترة التي كان يجري فيها بناء الهيكل الكبير. ويبدو أنه كان بمثابة منصة عملاقة يرتقيها الحجاج لأداء بعض الفرائض أو لمشاهدة ما يجري حولهم من طقوس. ويقوم على جانبي البرج عامودان منفردان، أحدهما من الغرانيت الأحمر والآخر من الغرانيت الرمادي. ويحيط بالبرج والمذبح الذي يليه حوضان خصصا لمياه التبريك والوضوء.
بعد اجتياز الرواق المقدم والبهو المسدس والبهو الكبير، يجد الزائر نفسه عند أعتاب الهيكل الكبير، وقد وصله بعد اجتياز عدد من المراحل التي كانت تفرضها أصول العبادات السامية القديمة. ويبلغ طول الهيكل 88 متراً وعرضه 48 متراً، وكان يقوم على دِكة عظيمة يبلغ ارتفاعها 20 متراً فوق أرض المدينة الرومانية المجاورة وسبعة أمتار فوق أرضية البهو، وقد بنيت بحجارة ضخمة، من بينها ثلاثة أحجار في حائطها الغربي وقد ذاعت شهرتها منذ القدم. ويبلغ طول الواحد من هذه الحجارة 20 متراً وعلوه 4 أمتار وسماكته 3 أمتار. ويصعد إلى الهيكل بدرج ضخم ذي ثلاث مساطب. وكان يحيط به رواق من أربعة وخمسين عموداً يعلوها إفريز مزخرف تزينه رؤوس الثيران والأسود.
هيكل باخوس
بمحاذاة الهيكل الكبير يقوم هيكل آخر بُني في غضون القرن الثاني ب.م ويمتاز بكونه من أفضل الهياكل الرومانية حفظاً ومن أبدعها نقشاً وزخرفاً على الإطلاق. ويرتفع الهيكل على دِكة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار ويصعد إليه بدرج عظيم يتألف من ثلاث وثلاثين درجة.
وبعكس المعبد الكبير الذي كان مكرساً لعبادة الثالوث البعلبكي من خلال إقامة الشعائر العامة والعلنية، فإن الهيكل الصغير كان مكرساً لإقامة بعض الطقوس المسارية التي لا يشترك فيها إلا المسارون الذين تفقهوا في الأسرار. وكانت هذه الطقوس والعبادات تتمحور حول إله بعلبك الشاب الذي كان يشرف على نمو النبات والقطعان. ولما كانت قد أسبغت عليه من ثم صفات شمسية، فإن عبادته كطفل إلهي في كنف الثالوث البعلبكي قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً في أذهان المؤمنين بمسألة الولادة والنمو والذبول والموت مع الأمل ببلوغ حياة أخرى. وكانت الطقوس تتضمن في ما تتضمن تناول بعض المخدرات، كالخمرة والأفيون، لتمكين المؤمنين من بلوغ النشوة المقدسة. وهذا ما يفسر وجود نقوش تمثل الكرمة وسنابل القمح وعناقيد العنب وجراء الخشخاش وبعض المشاهد المستوحاة من حلقات النشوة على بوابة الهيكل وفي داخله، الأمر الذي حدا بالبعض لأن ينسبوا هذا الهيكل إلى الإله باخوس.
هيكل الزهرة
إلى الجنوب الشرقي من القلعة يقوم هيكل صغير مستدير لا مثيل لتصميمه في جميع أنحاء العالم الروماني على الإطلاق، وقد بُني في غضون القرن الثالث. وكان هذا الهيكل مكرساً لتكريم الإلهة التي تمثل مدينة بعلبك وتشفع بها أمام آلهة المدينة العظام. وهذا ما يفسر توجيه المعبد باتجاه المعبد الكبير وتحويله في العصر البيزنطي إلى كنيسة على اسم القديسة بربارة، التي تعتبر شفيعة المدينة، وتقول التقاليد المحلية فيها إنها ولدت واستشهدت في بعلبك. وما يزال أهالي بعلبك يطلقون اسم البربارة على هذا الهيكل حتى اليوم. وعلى مقربة من هذا الهيكل، بقايا هيكل آخر يرجع تاريخه إلى بدايات القرن الأول ب.م وكان مكرساً لعبادة «الموسات» ربات الفنون والآداب.
وتشير وثائق وتقارير وزارة السياحة اللبنانية في بيروت إلى أن العمل استمر في هياكل بعلبك في القرن الأول بعد الميلاد، ضمن مراحل حتى تقبُّل الإمبراطورية للدين المسيحي وأوقف العمل فيها في القرن الرابع للميلاد وقد حولّت بعض أجزاء هذه الهياكل إلى كنائس وكتعبير عن السخط على الديانات القديمة والوثنية هشمت رموز هذه الديانات من أبناء الديانة الجديدة، ثم كان الفتح العربي الذي حوّل المعابد إلى مواقع عسكرية (أيام أبي عبيدة الجراح) وهشمت التماثيل التي نجت سابقا، وقد اهملت المعابد مع مرور الزمن حتى وصلت إلى اسوأ مرحلة أيام حكم آل حرفوش، إذ تحولت إلى مقلع للحجارة لبناء المساكن وظلت القلعة مدفونة تحت الأرض التي كانت تحرث وتزرع حتى عام 1900م عندما قامت بعثة ألمانية بالاتفاق مع السلطة العثمانية ودولة المانيا ببدء الحفر وقد افتتح عملية الحفر إمبراطور ألمانيا غليوم ولا تزال هناك لوحتان مثبتتان باللغتين التركية والألمانية تشهدان على هذه الذكرى.
من جهته، يقول الدكتور حسين نصر الله مؤلف كتاب «تاريخ بعلبك» قد تكون معابد بعلبك رومانية الشكل والزخرف. بيد أن من يمعن التدقيق في تصاميمها وبعض تفاصيلها لا بد له من ملاحظة الكثير من التأثيرات السامية المحلية عليها. ومما لا شك فيه أن تلك التأثيرات كانت ناجمة عن تدخل مباشر من قبل الكهنوت البعلبكي في التخطيط كي تتوافق البنى الجديدة مع متطلبات العبادة المحلية، لا سيما وأن الرومان كانوا يحرصون على عدم استدعاء السكان المحليين في المسائل الدينية.
جار الزمن على هياكل وآثار بعلبك، وعبثت بها يد الطبيعة والبشر، وتعرضت للزلازل والتخريب والتحوير طيلة القرون الوسطى والعصور الحديثة، غير أنها ظلت تستوقف الرحالة والزوار وتثير الإعجاب وتغذي الأساطير.