التقيته هذا الصباح، بشعره المشعث وابتسامته البريئة. يرتدي ملابس باهتة، لا تقيه من برودة الطقس. يحمل محفظة لم تعد تستحمل ثقل الكتب من كثرة خياطتها كلما تمزقت. ابتسم لي ثم فجأة، استوطنت وجهه الجميل، مسحة من الحزن والغضب. لم يتمالك أعصابه وصرخ في وجه حارس المدرسة: أنا لست ابن شوارع، أنا فقير لكن ابن ناس. حاولت الاقتراب منه وتهدئته ثم قلت له: الحارس ليس ذنبه، إنه ينفذ التعليمات. رفع يده عاليا واحتج بقوة، كأنه يريد أن يسمع احتجاجه للجميع قال: لو كان فلان، الذي يرتدي ملابس غالية وساعة آخر موديل لما تم شتمه مهما فعل. وصاح من جديد: أنا ابن ناس، أهلي أحسن ناس ثم دخل في نوبة هيستيرية من البكاء. نظرت إليه جليا وقلت له: لا تكبر الموضوع، أنت ابن ناس، والكل هنا أولاد وبنات ناس. مسح وجهه بمنديل يحمل آثار جراح كثيرة وهمس لي: يعاملوننا حسب العنوان المكتوب في بطاقة المعلومات الشخصية.
في اليوم الموالي، عند دخولي إلى المؤسسة، وجدتني أبحث عنه وسط فوضى كبيرة من الضجيج والحركة. لم أجده. سألت عنه، قيل لي بأنه تم توقيفه لمدة أسبوع. رجعت أدراجي، ولم أستطع أن أطرد من مخيلتي بكاءه وغضبه. اشتعل رأسي بالأسئلة التي اصطدمت بوابل من الحواجز التقليدية. قررت أن أعرف سبب التوقيف. حاولت الاتصال به مرارا، تذكرت ما قاله لي، عن العناوين في البطاقة الشخصية. دنوت من حي صغير لكنه كثير الكثافة السكانية، كل البيوت تتشابه. وجوه أطفال ممزقة من شدة البرد، أجساد الكبار آيلة للسقوط. ضجيج يستقبلك من الشارع الرئيسي. حياة لا تشبه حياة فلان. سألت عنه، التقيت بسيدة تحمل قفة صغيرة وفيها بعض الخضر المنزوعة منها الحياة، تمشي بخطى ثقيلة كأنها تحمل هم الزمن على كتفيها. وسألتها:
-السلام عليك سيدتي، أين يوجد بيت هيثم؟
نظرت إليّ بحذر وتابعت سيرها ولم تقل شيئا. وقفت حائرة وسط عالم يعيش بين الجدران. فجأة، سمعت صوتا ينادي عليّ، التفت وجدت هيثم، بابتسامته البريئة والحزينة والغاضبة. كأنه يعلم بحضوري. لم يكن لوحده، اقتربت مني سيدة، يبدو أنها أمه. وطلبت مني الدخول. سلمت على هيثم، وجلس إلى جانبي. غرفة صغيرة، كرسي واحد وبعض الأغطية مركونة في أقصى الغرفة. تتوسط الغرفة، مائدة مستديرة لا تتسع لأكثر من شخصين. يظل باب البيت مفتوحا، لأنه لا توجد في داخله إنارة ونور الصباح يعيد إليهم الحياة، وعند المساء، يشعلون الشمع ويتجمعون حول المائدة الصغيرة، حتى يحين موعد النوم. ضحك هيثم بشكل بريء، وقال لي:
– هنا نأكل. وهنا ننام.
ربت على رأسه وقلت له:
-أنت ابن ناس يا هيثم.
فرح كثيرا ونهض يستعجل أمه في إحضار الشاي.
لم أستطع أن أمنع نظراتي من التجول بين حيطان الغرفة الواحدة وما تحتويه من فراش بائس وأكل قليل لأسرة كبيرة. أصغرهم عمره سنتان. كانت أمه تبتسم ابتسامة لم تكتمل. وضعت الشاي وكأسين وبعض الخبز مع زيتون أسود. وقالت لي بخجل:
اعذرينا، ليس لدينا حلويات.
حاولت أن أطرد مرارة اللحظة التي استولت على ملامحي وجعلت لساني يرفض الكلام مما شاهدته، وقلت لها بكل أدب وصدق:
سيدتي، استقبالك لي أحسن من ألف حلويات، ثانيا، أنا لا آكلها لأنه ممنوع عليّ الاقتراب من السكريات.
فحصلت حالة من الانفراج، وتكلمنا كثيرا عن المدرسة والوضع العائلي ورغبتها في أن يدرس أولادها ويطردون لعنة الفقر. ثم في لحظة، سألت هيثم:
لماذا تم توقيفك عن المدرسة؟ ماذا حصل بالضبط؟
توارى جانبا واتكأ على الحائط وقال لي:
لقد كنت مظلوما وصرت ظالما. أنا نفسي لم أفهم. تم سبي وشتمي فقط لأنني فقير وليس لديّ الحق في الدفاع عن نفسي.
حاولت تهدئته وقلت له وأمه لا تتكلم:
الإنسان بعقله وليس بعنوان سكنه. إذا كنت مظلوما أنا أساعدك.
هنا تدخلت أمه كأنها تريد أن تقول لي ما لم يذكره هيثم. وقالت بنبرة قوية وغاضبة:
-أستاذة، الإحساس بالظلم شيء فظيع، هيثم ظلم ولم يسمع له أحد. نحن بالفعل فقراء، لكن لا نحب الظلم ولا نتعدى على الآخرين. لكن بما أن الطرف الآخر الذي تشاجر مع ولدي من عائلة غنية، سيطبق القانون على هيثم فقط.
لم أستطع أن أغير من هذا الإحساس شيئا، لأنه ترك جرحا عميقا لا يبرأ لدى هيثم وأسرته. سلمت على والدته وشكرتها على استقبالها وعلى كرمها. وودعت هيثم ونظرت إليه وهو يحمل غضبا يهد جبالا وقلت له:
كنت أتمنى أن أساعدك.
اقترب مني وصافحني وقال:
لن أعود لتلك المدرسة حتى يتم الاعتذار لي.
شعرت ساعتها بأن هيثم ضاع بسبب فوارق اجتماعية خلقها المجتمع وجعلها تتحكم في مصائرنا وتوجهنا.
كاتبة مغربية
لا يزال للقصص الواقعية سحرها و ألقها رغم التحولات الكبيرة التي طرأت على مسار فن القصة
–
أجدت سيدتي الكاتبة بشكل لائق و هيثم و أمثاله ضاعوا ليس فقط بسبب الفوارق الاجتماعية
–
بل بسبب موت المؤسسات التربوية التي لم تعد تقر مبدأ الاعتذار للآضعف تحياتي
صحيح سيدي، الواقع ملهم كبير و ما الكتابة سوى تصويره لكن بشكل آخر.
شكرا لمرورك الذي أسعدني.
كل التقدير.