«هيليوبوليس»… خلط أوراق السردية الرسمية

حجم الخط
1

هذا هو أول انطباع خرجت به، بعد مشاهدتي لفيلم «هيليوبوليس» لمخرجه الموهوب جعفر قاسم. الفيلم الذي تناول فيه أحداث 8 أيار/مايو 1945 في الجزائر، كمرحلة قطيعة في تاريخ البلد، ليس في المجال السياسي والفكري فقط، وهي تنهي مرحلة العمل السياسي والحزبي، بل سوسيولوجية كذلك، وهي تركز على دور الفئات المالكة الميسورة في تاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير لاحقا. كحلقة مفقودة ومسكوت عنها داخل السردية التاريخية الرسمية، التي ركزت في المقابل، على دور الفئات الشعبية الفقيرة، في إنجاز ثورة التحرير، وقبلها الحركة الوطنية.
لن أهتم كثيرا بالجوانب الفنية التي أتركها للنقاد والمتخصصين، رغم إعجابي بها في هذا العمل السينمائي الطويل الأول للمخرج، الذي أقنعني كمشاهد، بالكثير من الجماليات المرتبطة بهذا العمل السينمائي، كالديكور والتمثيل ونجاح السيناريو في ضبط ما ميز هذه المرحلة التاريخية، بكل تفاصيلها، كالحيوية السياسية النسبية التي عرفت بها، بعد وصول الجيش الأمريكي الجزائر، واندحار حكومة فيشي، خلال المرحلة الأخيرة من الحرب الكونية الثانية.
الفيلم نجح كذلك في نقل صورة صادقة عن أجواء مدينة قالمة، في الشرق الجزائري التي عاشت أحداث 8 مايو 1945 بكل ما ميزها كمدينة صغيرة ميسورة، اعتمدت على زراعة متطورة وعصرية، وحياة سياسية وثقافية نشيطة بنتها على التنوع الإثني، الذي ميزها كوسط اجتماعي، ما جعلها تُقدم كنموذج ناجح للاستعمار الاستيطاني، الذي تم تبشير الجزائريين به لغاية 8 مايو 1945. القطيعة التي مثلتها أحداث 8 مايو، هي الأخرى نجح المخرج في تقديمها للمشاهد الجزائري، بنهايتها البشعة التي ارتكبها المعمرون، في حق شعب أعزل آمن بوعود الحرية والاستقلال، التي قدمت له خلال هذه المرحلة التاريخية الحساسة، التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.. مرحلة كانت قصيرة جدا بالنسبة للجزائريين لم تتجاوز الساعات، ليكتشفوا الوجه العنيف والدموي للاستعمار. وهم يشاهدون تدخل الطيران الفرنسي والمعمرين، للإجهاز عليهم وذبحهم كالبهائم.
لكن الأهم الذي جاء به هذا الفيلم، حسب رأيي، يبقى تلك القراءة – الأقلية حتى الآن، التي قام بها للتاريخ السياسي للجزائر، وهو يركز على الدور الذي قامت به البورجوازية الريفية، والنخب الحضرية القريبة منها في هذه المرحلة من تاريخ الجزائر، دور ما زال مسكوت عنه وغير مقبول، قد يكون أحد أسباب الريبة التي قوبل بها الفيلم من قبل بعض النقاد. ريبة يمكن تفسيرها، بكل سهولة، نتيجة الهيمنة التي اكتسبتها القراءة الرسمية لتاريخ الحركة والوطنية، وثورة التحرير بعد الاستقلال، عند الكثير من أبناء الأجيال الشابة، وهي تعيد إنتاج ما اطلعت عليه في الكتاب المدرسي، وما سمعته من الخطاب الرسمي، حول السوسيولوجية السياسية لهذه المرحلة من التاريخ الوطني.

السردية الرسمية اعتمدت على القراءات الأيديولوجية التي لا تتعامل إلا مع الأبيض والأسود فقط، في وقت كان الرمادي هو الحاضر

تاريخ يكون حسب هذه القراءة المبتورة، من إنجاز الفئات الفقيرة والشعبية وحدها دون غيرها، لم تشارك فيه الطبقات الميسورة والغنية، إلا استثناء، ومن خلال حالات فردية محدودة ألغيت تماما من المشهد لاحقا، لتبقى أدواراً مبهمة وغير مفهومة، داخل السردية الرسمية، التي اعتمدت على القراءات الأيديولوجية الحادة التي لا تتعامل إلا مع الأبيض والأسود فقط، في وقت كان الرمادي هو الحاضر كلون عند هذه الفئات الميسورة، التي كانت تتداخل يومياتها المهنية، على وجه الخصوص مع الظاهرة الاستعمارية، سواء تعلق الأمر بالمدينة أم الريف، الذي بيّن الفيلم بشكل جميل، كيف أصبح وسطا غير آمن بالنسبة للمعمرين، الذين غادروه نحو المدن، بداية من هذه المحطة من تاريخ الجزائر. كان السبب الرئيس في فشل المشروع الاستعماري في الجزائر، الذي ركز حتى هذه اللحظة على الطابع الريفي الزراعي للظاهرة الاستعمارية. واقع تؤكده الدراسات التاريخية الفرنسية المتخصصة، التي بينت أن بعض الفئات الميسورة الجزائرية من أبناء الريف، وحتى المدينة، في الشرق الجزائري تحديدا، تمكنت سنوات قبل الاستقلال، من استعادة أغلبية الأراضي الفلاحية من المعمرين الأوروبيين، عن طريق إعادة شراء وكراء أراض، كان الأوروبيون قد انطلقوا في قضمها مباشرة بعد دخول الاستعمار، ما سمح للشرق الجزائري من التحول إلى البؤرة الأساسية للحياة السياسية الوطنية، اعتمادا على هذه الفئات الغنية، التي مثلها سياسيا عباس فرحات، وجمعية العلماء، ومجمل النخب المعروفة بخطابها الاندماجي، قبل أن تقترب لاحقا من الحركة الوطنية الاستقلالية على مستوى أبنائها، تحول انطلق فعليا مع أحداث الثامن من مايو، لذا سنجد أن الأهم من هذا الدور الذي قامت به هذه الفئات الميسورة المسكوت عنه داخل السردية التاريخية الوطنية، خلال هذه المرحلة والجيل. ما قام به لاحقا أثناء ثورة التحرير، وما بعد الاستقلال أبناء هذه الفئات، كما تبينه عديد الحالات، في أكثر من منطقة من التراب الوطني، تحول بموجبها ابن القايد وحفيد البشاغا إلى قيادي ومسؤول كبير، بعد الاستقلال، رغم التغطية التي قام بها أبناء الطبقات الشعبية، من أبناء الفلاحين الصغار بخطابهم السياسي الجذري، على هذا الحضور لأبناء البرجوازية الوطنية، بشرعيتهم الضعيفة، كما كان الحال مع بومدين في علاقاته السياسية مع أبناء هذه الفئات التي شغلها لحسابه. في صراعه مع منافسيه السياسيين، كما ظهر مع مجموعة الفارين من الجيش الفرنسي كمثال.
قراءة جعلت محمد حربي وهو المؤرخ المتخصص، في الحركة الوطنية وثورة التحرير، وأحد أبناء هذه الفئات الميسورة، يصرح أكثر من مرة، بأن هذه الفئات الميسورة الغنية صاحبة الملكية الكبيرة والمتوسطة، في الريف الجزائري – التحقت لاحقا هي الأخرى بالمدينة مثل المعمرين – قد تضررت كثيرا من الحصار الذي فرضه عليها النمط الكولونيالي للتنمية، اعتمادا على مقاييس إثنية ودينية، منعتها من التطور ومنافسة الأوروبيين، ما جعلها تحس بغبن كبير وتطور من جهتها عداوة للنظام الاستعماري، لا يفسرها هذا العامل الاقتصادي لوحده، رغم أهميته. فئات كانت على رأس المستفيدين من مرحلة الاستقلال، بدأت في تجسيدها في وقت سابق، بواسطة تعليم أبنائها، خلال المرحلة الاستعمارية، في مجتمع تغلب عليه الأمية، هي التي لم تكن بعيدة رغم ذلك، عن محيطها الاجتماعي الوطني، عبر الكثير من الوشائج كالسكن والزواج والحياة الثقافية والدينية، وغيرها من الروابط الاجتماعية – النفسية التي ساعدتها على البقاء قريبة من أبناء جلدتها، لتنجز عدة أدوار مهمة، رغم ضعفها الديموغرافي، مقارنة بالفلاحين الصغار. في حالة استعمارية استيطانية عنيفة قام داخلها المعمرون الأوروبيون الكبار وبعض الفئات الشعبية القريبة لمنطق الرعاع – كما بينهم الفيلم في صورة الميليشيات المسلحة ـ بدور المفجر لكل إمكانية تفاهم ونجاح لهذا المشروع الاستعماري الاستيطاني، رغم استمراره لأكثر من قرن من الزمن.
كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حبيب:

    الثورة الجزائرية فجرها وغذاها أبناء الطبقات الفقيرة التي كانت تعاني من ويلات الاضطهاد،أم سكان المدن والميسورين فكانوا يعيشون في تناغم مع المستدمر وثقافته واغلبيتهم إلى يومنا هذا يحن إلى الماضي الاستعماري ويتغنون به ويتحصرون على ايامه. وفي كل الثورات الاذكياء هم من يخططون لها وفي ذلك الوقت هي النخبة من ابناء الريف والأحياء الشعبية الذين عانوا في صغرهم وشاهدوا الظلم والمعانات في وجوه عائلاتهم وعايشوه ومن نفذها هم ابناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة الذين لم يكن لديهم ما يخسرونه لانهم كانوا امواتا احياءا أم الجبناء فهم البرجوازية الذين كانوا يستفيدون من الوضع القائم إلا من رحم ربك هم من استفادوا من الثورة وتقلد ابناءهم مناصب في جزاءر الاستقلال بحكم انهم حصلوا على التعليم في فرنسا الاوروبية ونحن نعاني إلى اليوم منهم لان ولاءهم لفرنسا أكثر منه للجزائر.

إشترك في قائمتنا البريدية