حسن داوود٭
يكفي أن تنقر كلمة The Road (الطريق) على غوغل حتى تعرف عدد الأعمال السينمائية التي حملت هذا العنوان، أو ما يدلّ عليه. مثل ذلك ستجده في عناوين الروايات التي ظهر بعضها في السينما كذلك. الطريق، بين ما تعنيه، الخروج، أي إدارة الظهر لحياة سبقت، والشروع بمواجهة عالم مجهول. هكذا تبدأ الروايات، أغلب الروايات، حسب نقّاد كثيرين. من السطور الأولى نعرف أن من ستدور الرواية حوله خطا خطوة خروجه الأولى، أو انه يعيدنا متذكّرا، إليها.
كثيرة هي الأعمال الروائية والسينمائية التي تحمل عنوان «الطريق» أو ما يدلّ عليه. هذه العناوين المتكررة بدأت بالتخالط في رأسي، فيما رحت أقلّب صفحات الكتيّب الصغير لأسبوع الفيلم الألماني في سينما متروبوليس. هل الفيلم اقتباس لرواية هذه المرة، هل هو نسخة ثانية لما جرى إخراجه سابقا، أو هل هو تجربة أخرى في الثيمة القابلة، على الدوام، للتجدّد؟
للشاب البريطاني غيلين، وكذلك لرفيق رحلته الكونغولي وليم، المتقاسمان بطولة فيلم (Roads) ليس الوصول هو المهم، أو حتى الوجهة. المهم هو ما لم يتوقّعاه في رحلتهما. ثم أن أولهما، الشاب البريطاني المبتسم والحانق معا، كان النزَق الذي تأتي به المغامرة هو ما دفعه إلى سرقة «فان» الرحلات المجهز للنوم من أمه وزوج أمه. كان غيلين في الثامنة عشرة آنذاك، في تمام الثامنة عشرة إذ صادف يوم سرقته الفان وفراره به يوم عيد ميلاده. لم يكن قد ابتعد كثيرا حين تعطل المحرك وجعل هو ينتظر محتسيا البيرة، جالسا على سطح الفان. لم يكن غاضبا ولا خائفا في أثناء ذلك، بل كان في مزاج اللهو والضحك، حين تقدم نحوه شاب أسود من الكونغو، حذرا متردّدا. كان سيصير في الثامنة عشرة هو أيضا بعد شهر، وهو، بمجرد أن أدار المفتاح في ثقبه، استجاب الفان وطلع صوت المحرك قويا خشنا، ليباشر الشابان رحلتهما، من حيث هما في المغرب، إلى أوروبا.
هي أوروبا أخرى، خالية من أهلها هذه المرة وأكثر مشاهدها التقط في الليل. وهي عدائية أيضا، سواء كان ذلك في إسبانيا أو في فرنسا.
أي أنهما سيعبران ثلاثة بلدان هي المغرب ثم إسبانيا ففرنسا من دون تأشيرة دخول، فيما خصّ وليم (الكونغولي)، ومن دون أن يحوزا كلاهما على رخص سوق. كان على هذا الأخير أن يختبئ في حمّام الفان الضيّق، معظم الوقت، وذلك باقتراح ممن بات صديقه، المتولّي القيادة بما يكاد يذكّر باللقاء بين روبنسون كروزو و«فريداي» في رواية دانييل ديفو الشهيرة. لكن صداقة حقيقية تقوم بين الشابين يختبرانها طوال بقائهما معا. وفي تلك الرحلة لن نكون في أوروبا المتخيَّلة، بل في عالم مليء بالاعتداء والفوضى. أول من التقياه لدى وصولهما إلى إسبانيا كان رجلا سارقا ومهربا سرعان ما فرّ بالفان تاركا الشاب غيلين وراءه، بينما وليم ما زال مختبئا في الحمام، لكن بثقة في النفس لم تكن بين خصال الشاب الأسود استطاع صديقه اللندني ملاحقة السارق، مستعينا بدراجة هوائية، الوصولَ إلى حيث صار الفان وإعادته، أو إعادة سرقته.
أما الشاب الإفريقي فمن ميزاته الحذر والحكمة، والتقوى حيث ظهر في أحد المشاهد وهو يؤدي صلاة كاملة. ولم يكن قاصدا اللهو في الذهاب إلى أوروبا، بل العثور على أخيه بعد أن انقطعت صلة العائلة به. غيلين أيضا كان ذاهبا ليرى أباه، المقيم في فرنسا مع زوجته الجديدة، لكن من دون أن تكون حاجته للّقاء عاطفية أو عائلية، فبمجرد أن التقيا انفرط عقدهما فغادر غيلين مطرودا في المشهد الذي اختُتم بإقبال الأب على معانقة زوجته.
هي أوروبا أخرى، خالية من أهلها هذه المرة وأكثر مشاهدها التقط في الليل. وهي عدائية أيضا، سواء كان ذلك في إسبانيا أو في فرنسا. أما ما يجري حوله القسم الأخير من الفيلم فهو حياة المهاجرين غير الشرعيين القادمين من افريقيا على وجه الخصوص. لكن لن يُهمل المهاجرون من بلدان العالم الأخرى، فها هو وليم يروي تفاصيل رحلة هروب بالقارب إلى أحد الشواطئ الأوروبية، تضمّ خليطا متنوّعا منهم. ذلك الجزء من الفيلم يدور حول الهروب والمطاردة والإقامة في العراء والطرد من الأمكنة، لئلا تكون مشبوهة بدخول المهاجرين إليها. إنه عالم أوروبا السفلي، حيث لا مشهد يستعيد ما تحفظه الذاكرة من صورها، والمهاجرون رجال كلهم والمواطنون الأوروبيون هم إما من البوليس أو من العاملين إما بالتجارة، وإما بالإيواء مع المهاجرين. أوروبا هي الجنة وقد انقلبت رأسا على عقب. أما الرحلة إليها، كما الرحلة فيها (الطرقات، حسب عنوان الفيلم) فأعادت رسم خريطتهما الرحلات الأخرى، سواء في القوارب الشائعة الذكر أو الطرق البرية التي منها رحلة الشابين. في نهاية الفيلم لم يجدا بدا من أن يفترقا ويذهبا كل في سبيل. بقيا في فرنسا، لكنهما سلكا طريقين منفصلين، أحدهما إلى مركز لإيواء المهاجرين انضم إليه مع أخيه المعطوب الجسم، والآخر بادئا حياته في واحدة من المهن الشاقة المنهكة.
فيلم Roads للألماني سيباستيان شيبر عُرض في الليلة الثانية من أسبوع السينما الألمانية، الذي سيقدم فيه اثنا عشر فيلما ويختتم في الأول من أكتوبر/تشرين الأول.
٭ روائي لبناني
لو فتح الطريق أمام شعوب الضفة الجنوبية للبحر المتوسط نحو أوروبا من خلال هجرة عبر قوارب الحياة فإن بيروت تحل محل مرسيليا وروما مكانها تأخذه الإسكندرية وباريس تكون تسميتها مراكش وليون بدلها توجد تلمسان ومدريد هي طرابلس وعين دراهم تكون التسمية لبرشلونة. . .
أوروبا تمر الآن بشيخوخة.