واجهات المتلاشيات التنظيرية

قديمة جدا هي المقاربات الفلسفية المتسائلة عن حدود تطابق الفكر مع الشروط المجتمعية والثقافية الفاعلة في إنتاجه، قدم العلاقة ذاتها، حيث سيجد المهتم نفسه أمام فسيفساء تنظيرية، تأخذ شكل متاهة مترامية الأطراف، وأيضا، على درجة كبيرة من الثراء والإثارة، لذلك سيكون من الطبيعي أن تحظى – كونيا – بما لا حصر لها من الأطاريح الجامعية، المؤطرة بمرجعياتها.
الشيء نفسه ينسحب على المقاربات/الإشكاليات، ذاتها في العالم العربي، لكن مع تلك الفوارق الصادمة، الفاصلة بين فضاءاتنا وفضاءات الآخر. لعل أهمها، عجز مقارباتنا عن اجتراح آليات، تحيل على رؤيتها الخاصة للمعرفة، كصيغة منطقية من صيغ التعبير عن وعيها الشخصي بحركية السؤال.
ومن أخطر تجليات هذا العجز، ذلك الاكتظاظ الكرنفالي للنخب، حول الموائد المعرفية التي يتحمل الآخر مسؤولية تجهيزها من ألفها إلى يائها، بغية التقاط ما يتبقى من أطايب مقولاتها ومنظوماتها. ذلك أننا ضمن اقتناعنا المبدئي بمشاعية المنجز الحضاري، بوصفه معطى كونيا، نجد أنفسنا مدعوين لتأكيد تحفظنا من كل تقاسم ثقافي سالب، لا يتجاوز حدود الاستهلاك المجاني والعشوائي، من قبل هذه الجهة أو تلك، وهي الوضعية المستبدة بوضعنا الثقافي ككل. فتحت ذريعة انفتاح النخب على ما يجد من إشكاليات معرفية وثقافية، وأيضا تحت ذريعة الحرص على تكريس انتمائها للضفاف الحداثية، فإنها لا تجد أي غضاضة في مداومة اجترارها لمقولات ومنظومات، أمست بالنسبة للآخر جزءا من ماضيه المعرفي السحيق، بالنظر للتحولات الدائبة التي تعيشها خطاباته الفكرية والإبداعية، في علاقتها مع مجريات المعيش للمعرفي. والقول بالمعيش المعرفي لدى الآخر، يتجاوز بنا الحدود التقليدية لمفهوم المعيش الذي تحصره عادة في تمظهراته المجتمعية والحياتية، المؤطرة بإكراهات اليومي، إلى مستوياتها الأكثر تقدما، حيث تصبح المعرفة تبعا لذلك، هي أيضا نمطا أساسيا من أنماط الحياة اليومية والمعيشة.
فدلالة المعيش في هذا السياق، تفيد تفاعل الكائن مع واقعه، عبر مختلف القنوات المعرفية المتاحة له، التي من شأنها عقلنة علاقته بهذا الواقع، فبفضل التأثير الكبير الذي تمارسه هذه العقلنة المعرفية على إيقاعات اليومي، تتقلص سلطة الصدفة والاعتباطية المؤطرة عادة لحركية الذات. ما يساعد على تحكمها المباشر أو الضمني، في مجرى المعيش. كما يساعد على هندسة الوقائع والأحداث.

فدلالة المعيش في هذا السياق، تفيد تفاعل الكائن مع واقعه، عبر مختلف القنوات المعرفية المتاحة له، التي من شأنها عقلنة علاقته بهذا الواقع، فبفضل التأثير الكبير الذي تمارسه هذه العقلنة المعرفية على إيقاعات اليومي، تتقلص سلطة الصدفة والاعتباطية المؤطرة عادة لحركية الذات.

وتركيزنا على الدلالة العميقة التي يتميز بها «المعيش المعرفي» يهدف أساسا إلى إضاءة مسالكه المتشعبة، في فضاءات الآخر، بينما ينعدم حضورها أو يكاد، في واقعنا المعيش، بالنظر لما يتلاطم فيه من بؤس تأهيلي، وأيضا، بالنظر لمأساوية تجرده مواصفات الفكري، وحيثيات الإبداعي. ذلك أن النبوغ التنظيري، بالنسبة للغرب، سواء في مجال العلوم الإنسانية أو التجريبية، لا يتحقق فقط في قلب المختبرات المغلقة على اختصاصاتها الضيقة، قدر تشبعه التلقائي بالدينامية المتجددة، الممتدة إليه من قلب مختلف الروافد الحياتية الموجهة بضوء العقل و والمعرفة العالمة، حيث لن يكون ممكنا الحديث عن نبوغ تنظيري في غياب تقاليد ثقافية ومعرفية، ترتقي باليومي من فطريته وسذاجته، إلى مستوى الأفق المؤثث بحيوية مقولاته ودينامية منظوماته الفكرية والفنية. وإذا ما سلمنا بأن التنظير هو بمثابة التجسيد الفعلي لأحد أهم روافد الإبداع ، فإن كل جهل أو تجاهل لهذه المسلمة، من شأنه الزج بخطاباته في مأزق استنساخ ما سبق للآخرين أن تألقوا في إبداعه، ما يعني في نهاية المطاف، إعادة إنتاج خطاب خشبي، لا أثر فيه لروح الإبداع وجدليته. كما أن تجاهل العمق الإبداعي في الخطاب التنظيري، يؤدي إلى حالة مزمنة من التراكم المشوه لأصول القول والإبداع والابتكار.
ومن المؤكد أن النخب المعنية، غير مهيأة لتقبل هذا التصور، لكونه يكشف بالملموس عن استفحال ما تعانيه تصوراتها ومشاريعها الثقافية من أعطاب، فور شروعها في اقتحام جحر الإشكاليات النظرية، لعل أشدها قسوة، توجهها إلى مقصدياتها وهي عزلاء تماما من أي خصوصية معرفية، تتيح لها إمكانية التفاعل الإيجابي مع المنجز النظري المراكم من قبل الدرس الغربي، حيث سيكون من الطبيعي مشاهدتها هنا وهناك، وهي منكبة بما يليق بها من «اعتداد» و»تبجح» على التقاط تلك النفايات المعرفية، التي استنفدت كل فاعليتها للاستمرار، بفعل ما طالها من استهلاك واستنزاف. وسيكون من الضروري في هذا السياق، الإشارة إلى آلية اشتغال الكثير من الخطابات التنظيرية السائدة في فضاءاتنا العربية، المتمثلة في صيغة التفافها الدائم حول ما تعتبره إشكالا عالقا، يحتاج باستمرار إلى إعادة قراءة، وإلى إعادة تفكيك، وسيكون من الضروري في هذا السياق، الإشارة إلى أن الأسئلة الأساسية والعميقة، غير معنية مطلقا بالعثور على ما يعتبره البعض أجوبة نهائية، ضمن قناعتنا الراسخة، بأن السؤال هو في حد ذاته، حتى في صيغته المسكوكة والمغلقة، يظل منفتحا دائما على صيرورته المستقبلية، ومتحررا من ثوابت الأمكنة والأزمنة، بمعنى أن صيرورته تتحقق على امتداد أسفاره المنفتحة بقوة السياقات الطارئة والمتحولة، ما يضفي عليه مشروعية الوجود المستمر والمتعدد، بتعدد هذه السياقات. في حين يقتصر الجواب على حضوره العابر والمؤقت، في المكان والزمان، أي في حدود قابليته للتفاعل العملي، وفي حدود تقديمه للحلول الملحة والعملية، لكن حالما يضيق أفق البحث والسؤال، وتنتفي معه الشروط المؤثرة في خلق المناخات التفاعلية التي تتلاقح فيها جذور ومنابع الروافد المعرفية، فإن التهافت على الأجوبة الجاهزة والمسكوكة يغدو الخيار الوحيد والأخير، الذي ليس للقول سواه، وهي الوضعية النشاز التي تعاني منها الخطابات التنظيرية في مشهدنا الثقافي، ما يجعلها تراوح مكانها، تماما مثل أتان المعصرة التي لا تني تطوف حول نفسها، بعينيها المعصوبتين.
فالباحث، وفي عز استسلامه لمتعة النوم في عسل الرتابة المعرفية، يكتشف بمحض صدفة دأبت على تأجيل ظهورها، بعضا من متلاشيات الأجوبة الملقاة في مطارح القول، حيث يبادر بالتقاطها، بوصفها كنزا معرفيا نادر الوجود، وبوصفها عملة فكرية قل نظيرها، فيتعهدها بالعناية، وقد شمر عن أكمام تعالمه، مستهدفا إياها بـ«المراجعة» و«التصويب» و«التقليم» تمهيدا لعرضها في واجهات القراءة الموجهة لمعطوبي القول، الذين يتقاسمون معه بوار ما اهتدى عماه إليه، وقد غدا ممهورا بتوقيعه الخاص. فبالنظر لافتقار البحث إلى الحد الأدنى من مؤهلاته المساهمة في اكتشافه لمساراته الجديدة، فإنه يستعيض عنها بإضفاء ما يكفي من الهيبة المفتعلة على متلاشياته النظرية، عساها تستعيد بريقها وهيبتها الإشكالية، التي أمسى نتيجة التحولات المعرفية في خبر كان.
وهكذا تستمر أتان المعصرة، أو بالأحرى أتان القول، في ملازمة دائرتها المغلقة، وهي سعيدة بالعصابة المطبقة على بصرها وبصيرتها.

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فريد.م:

    مقال قيم وعميق، ولكنه صعب القراءة.
    شكرا للكاتب المومني.

إشترك في قائمتنا البريدية