تتباين المرجعيات النظرية المعتمدة من قبل الكتابة، انسجاما مع تباين مقصدياتها، حيث تختص كل مقصدية فكرية أو إبداعية، بمنهاجيتها في انتقاء ما يلائمها من المرجعيات الكفيلة بتكريس حضورها في فضاءات القراءة. علما بأن الفاعلية الإجرائية لهذه المنهجيات، تظل جد نسبية، بما تعنيه الفاعلية هنا، من تطلع إلى تحقيق نوع من التطابق بين آلية اشتغالها، وطبيعة الأفق المستشرف من قبل الكتابة. وهو أمر يراوح بين الإمكان والاستحالة، بالنظر للجموح المباغت الذي يحدث أن يتخللها، لتنفلت من إطار التوصيفات الجاهزة والقبلية، في اتجاه أخرى مختلفة ولا متوقعة.
وبقدر ما يقترن كلامها الجاهز عادة بثوابته المسكوكة، بقدر ما يتميز كلامها المختلف بقوانينه الخاصة. وهي القوانين التي تجعل منه ‘مشروعا’ بديلا يتشكل تدريجيا عبر تأمينه لمكانه الرمزي، البعيد نظريا عن مضارب المقولات المتداولة، التي تتعذر بفعل هيمنتها، إمكانية تجديد أو تغيير زاوية الرؤية والإنصات، حيث تضطر الأطياف التعبيرية المتفردة بجمالية اختلافها على الاحتجاب، منتظرة زمن انبجاسها واكتشافها المؤجل، في رحاب تلك الأرخبيلات الأكثر حميمية، حيث دأبت الكتابة على تجديد علاقاتها بكائناتها، وإعادة ترتيبها لأولوياتها .إن الأمر يتعلق هنا مجازيا بطقس فتح صندوق الأحوال، من أجل تفقد وجوهها، بمجموع ما يتتالى عليها من أقنعة. كما يتعلق بإعمال النظر في صيغة إعدادها لوصفاتها، التي تراود بخيميائها عشاقها وأعداءها على السواء، أي أولئك الذين يتواصلون معها بلغات الطير، أو بلغات الذئاب .
هناك فقط، سيكون بوسعك أن تمتلك حق التغني بأصواتك المنسية في عمق المفازة، بعيدا عن فضول اليعاسيب. ثم هناك فقط، تعتبر الكتابة شأنا جسديا وروحيا بامتياز، بكل أبعاده الجمالية والفكرية والحضارية، ضدا من سلطة أي رقابة محتملة.. برانية كانت أم جوانية. علما بأن فعل الكتابة ككل، لا يتحقق إلا من خلال الإحاطة الوافية بآليات وأسرار اشتغالها، فضلا عن الإلمام بآليات اشتغال تلقيها. وهما شرطان أساسيان، لا يستقيمان إلا عبر توافر مقوماتهما النظرية. وضمن إطار التعدد والتنوع، الذي تتميز به هذه المقومات، يمكن الإشارة إلى الدور الذي يتميز به كلام الكتابة في هذا المجال، والمتمثل في حاجته الطبيعية إلى تجديد كينونته، عبر تجديده لدينامية ما يتخلله من إشارات، ذلك أن كلام الكتابة، وأسوة بحركية العناصر ككل، لا يكشف عادة سوى عن تجلياته القريبة، التي تستدعيها الضرورة التواصلية. في حين، تظل نسبة كبيرة من تشكلاته وتحولاته، جاهزة للإعلان عن حضورها، في صلب القضايا الفكرية والإبداعية الأكثر عمقا، والأكثر خصوصية، وبالتالي، فإن الكلام المحمول على محفة التخييل الجمالي ـ على سبيل المثال لا الحصر- يمتلك قدرته على التسرب المبيت والعفوي، الى دواخل الكائن، بحثا عن مسالك جديدة للتفاعل والوجود، باعتباره شكلا إجرائيا من أشكال البحث. كما باعتباره عتبة قد تفضي إلى مسكن الحقيقة، أو مسكن الوهم. مسكن اليقين، أو مسكن الالتباس العظيم.
ومن الواضح أن الحاجة إلى تجديد مسارات الكلام، تظل مشروطة بقابلية التلقي للتفاعل معها، لأنها في حالة ما إذا ظلت مقيدة بعاهة الإنصات إلى الإيقاعات نفسها، فإن كلام الكتابة، بوصفه تعبيرا ضمنيا عن تموضعها ضمن حيز محدد في جغرافية الوجود، سيتعرض حتما للتلاشي، وهي إشكالية على درجة كبيرة من الحساسية، لأنها تدعونا إلى طرح بعض الأسئلة المؤرقة، حول حدود التفاعل المطلوب مع النصوص الكونية الكبرى، قديمة كانت أو حديثة، خاصة منها تلك المستبدة باهتمام التلقي، بصرف النظر عن أمكنته أو أزمنته. ورغم اقتناعنا بأن الذاكرة الإبداعية، تستمد مصداقيتها الجمالية من «شرط» الامتثال إلى سلطة هذه النصوص، إلا أن الإفراط في ذلك، سيضفي عليها مسحة قداسية، تضعها خارج أي مراجعة قرائية.
إذا كانت النصوص المكرسة كونيا، تمتلك نصيبها الهائل في تحقيق هذا الثراء، فإن النصوص المقبلة من أرض الكلام الواسعة، تمتلك هي أيضا نصيبها المتميز منه. رغم ضيق الهوامش المتاحة لها.
كما لو أنها أصل لا يمكن التشكيك في هيبته. الشيء الذي يحول دون توسيع أمكنة وأزمنة التلقي، من أجل إتاحة الفرصة للكلام الآخر، كي يطرح أسئلته المختلفة، وهو إشكال جدير بالاهتمام، لأنه يؤثر سلبا في إمكانية الاستفادة من الأرصدة المعرفية، التي شرعت في مراكمتها طاقات فكرية وإبداعية، في سياق ممارستها لحقها في الوجود. وضمن هذا السياق، يجب التأكيد على دلالة الحق في الحضور الفكري والإبداعي، لما لم يكن من قبل واردا في حسبان الكون، بوصفه الترجمة الفعلية لانفتاح ذات الكائن، على ما يمكن أن يحدث هنا أو هناك. وللذات هنا أكثر من بعد، خاصة حينما تتخلص من سلطة العام والشمولي، في أفق إثرائها للمسارات الفردية والمؤجلة، التي يمتلكها الكلام، وكذلك حينما تعمل على تطوير إيقاعات تحولاته التي يحدث أن يطالعها بها الوجود، خلال حله وترحاله.
وإذا كانت النصوص المكرسة كونيا، تمتلك نصيبها الهائل في تحقيق هذا الثراء، فإن النصوص المقبلة من أرض الكلام الواسعة، تمتلك هي أيضا نصيبها المتميز منه. رغم ضيق الهوامش المتاحة لها. علما بأن مبدأ التكريس، يظل في حاجة دائمة إلى المساءلة، إذ لا يمكن أن تحتفظ معايير التقييم براهنيتها الأبدية، بدون مراعاة العلاقة الجدلية القائمة بين تحولات الحساسية الجمالية، والوسائط الفكرية والإبداعية الموظفة في استكناهها. ما يدعونا إلى استمرارية تغيير منصات التلقي، بنقلها تباعا من مراكز الكلام إلى هوامشه، لأن هذا التغيير، هو في حد ذاته انفلات ضمني من السلط المتحكمة في رؤية ما يحدث هنا أو هناك. ونحن نشير في هذا السياق، إلى مختلف المدارات والمسالك الإبداعية والجمالية، التي يعيد فيها الكائن اكتشاف المزيد من أطيافه ومن ظلاله .
والجدير بالذكر، أن تبني رؤية الكتابة المختلفة بما هي كلام مغاير، يعتبر في حد ذاته مغامرة قد تهددها بلعنة الإقصاء. شأنها في ذلك شأن أي ممارسة تقع خارج الفضاءات المشتركة، بما هي فضاءات نموذجية، تتفاعل فيها اللغات والقيم والخطابات، حيث تعتبر مبادرة البحث عن بديل نظري ما، «تنصلا « صريحا من المواثيق المشتركة، وإعلانا صريحا عن حرب مبيتة ضد قداسة الأعراف.
من هنا، نجدد اقتناعنا بالمهمة الصعبة الملقاة على عاتق الكتابة الأخرى، التي يمكن إجمالها في القدرة على الإقامة بعيدا عن مضارب القطيع، لكن شرط أن تتحقق على أرضية فكرية وإبداعية، مستوفية لمواصفات الأسئلة المستقبلية، وليس مجرد نزوة متهافتة تسعى إلى إثبات حضور يخلو من مشروعيته، ومن مصداقيته. وإذا كان من الطبيعي الإقرار بأهمية التواجد في المسارات العامة للكلام، فإن ذلك لن يلغي ضرورة تبين موقف الذات من هذه التواجد، إذ بدون شرط استقلاليتها، لن يكون ثمة جدوى من التواجد الفعلي أو الرمزي للآخر/الآخرين، في الطرف المقابل للقناة، وبدون الاهتمام بجدوى الإصغاء إلى الإيقاعات الخاصة للذات، سيتحول الآخر حتما إلى سلطة سعيدة بتعاليها الدائم، وبهيمنتها الأبدية على أخضر الكلام ويابسه بهذا المعنى سنعتبر الإنصات قيمة مشروطة بقوانينها، لعل أولها، شرعية احتفاظ الذات بحقها المشروع في الاختلاف، خاصة مع تكالب الأصوات النشاز، المتخصصة في تخريب قنوات ما يقال، وما لا يقال، إن ممارسة الحق في الاختلاف القرائي، هي خطوة أساسية في اتجاه عقلنة علاقتنا بالنصوص المركزية والكبيرة. وبالتالي، هي خطوة في اتجاه إلهاب شرارة المغايرة، كي تعلن عن حضورها الفكري والإبداعي، مؤشرة إلى حضور حياة موازية، تمتلك مشروعيتها في اقتراح خطاطات مختلفة لهندسة أخرى، يمكن أن يتمظهر بها جسد الكلام. خطاطات رؤية ووجود، ولو أنها لا تحظى بمصادقة سدنة مراكز الوهم .
*شاعر وكاتب من المغرب