واشنطن بوست: الاستقطاب الأمريكي عميق ولن يلغيه فوز ترامب أو هاريس

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالًا للمعلق شادي حميد، قال فيه: “بكيت عندما فاز ترامب، ولن أبكي بعد الآن بسبب الانتخابات”، مضيفًا أن أمريكا بلدٌ منقسم، والنزاع محتوم، وقد يكون صحيًا. وقال إنه لا يزال يتذكّر عندما بكى بسبب الانتخابات، في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2016. وقد اتصل به شقيقه في منتصف الليل، وقال له: “لست قلقًا علينا، ولكن على أمي وأبي”، و”بدأت أبكي لأن أمي محجبة. وقد قضى ترامب 12 شهرًا في شيطنة المسلمين”، و”عندما أنظر للوراء أشعر بالبلاهة، لأن الرجال لا يبكون، وربما كان عليهم البكاء في بعض المناسبات، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبكي بسبب الانتخابات. أسوأ شيء في الانتخابات هو الخسارة، لكن أفضل شيء في الخسارة هو أنك تعيش لكي تحارب في يوم آخر، في الانتخابات القادمة”.

أفضل شيء في الخسارة هو أنك تعيش لكي تحارب في يوم آخر، في الانتخابات القادمة

وكمثقف، كان الكاتب يعرف هذه الأمور، ولكن في خضمّ اللحظة، كان الأمر صعبًا “فقد ذهب والداي إلى النوم قبل أن يغيّر ترامب مسار التاريخ الأمريكي. ومع ذلك، عندما تحدثت إلى والدي، في ذلك الصباح، بدا مرتاحًا بشكل غريب. لقد نشأ في ظل نظام استبدادي. ولأنه رأى البديل فقد كان لديه فهم بديهي لما يجعل الديمقراطية قوية. وإذا صوّتَ عددٌ كافٍ من الأمريكيين لصالح ترامب، فلا بدّ أن يكون لديهم سبب للقيام بذلك. لقد كان هذا هو اختيارهم. وما الديمقراطية إنْ لم تكن الحق في اتخاذ الاختيار الخاطئ؟ لم تكن هذه نهاية العالم. ولم تكن كذلك.”

وبعد ثمانية أعوام، يجد الأمريكيون أنفسهم في حالة من الاستقطاب الذي لا يعبّر عن اختلافات في الرأي، ولكن عن القلق بشأن شكل ومعنى المشروع الأمريكي. فقد وجدت دراسة لمعهد بيو للاستطلاعات أن 77% من ناخبي ترامب، و80% من ناخبي بايدن يتعاملون مع خلافاتهم على أنها “أساسية”، وتتعلق بجوهر القيم الأمريكية. ومع زيادة سقف الرهانات، فإن تدفق الأحداث قد يكون طاغيًا، ذلك أنه يتم الترويج لكل انتخابات وطنية على أنها “الأكثر أهمية” في حياة الأمريكيين. مع أنه ليس كل انتخابات يمكن أن تكون الأكثر أهمية، حتى لو بدت كذلك في تلك اللحظة.

وقد طغت، منذ انتخابات 2016، فكرة موت الديمقراطية على تفكير الأمريكيين، فما تبع فوز ترامب كان سنوات من الرعب الوجودي. وجعلت السياسة الأمريكيين مرضى وبالمعنى الحرفي أحيانًا.

 وبحسب إحدى الدراسات، قالت نسبة 40% من البالغين الأمريكيين إن السياسة باتت تشكل “مصدرًا مهمًا للتوتر” في حياتهم، وقادت إلى مشاكل صحية مثل التعب والأرق وفقدان السيطرة على الأعصاب.

رؤية خصومك على أنهم بحاجة إلى التحضّر ربما لا تكون وصفة رائعة للتعايش

وفي الوقت نفسه، أفادت نسبة 5% من البالغين الأمريكيين بأن السياسة أصبحت تدفعهم للتفكير بالانتحار. وقد عوّلَ ملايين الأمريكيين على انتخاب بايدن، وإمكانية تصحيح المسار، ومنح مظهر من العادية على الأمور بعيدًا عن سنوات ترامب. كان بايدن عجوزًا وأبيض، ويدعو إلى الملل (نسبيًا). ويقول حميد: “ليست كل المشاكل لها حلول، وإذا كانت انقساماتنا عميقة، فربما كانت عصية على الإصلاح”.

وكما تقول الباحثة في النظرية السياسية شانتال موف: “هناك صراعات لا يوجد لها حلّ عقلاني على الإطلاق، ولهذا نفهم مدى العداء الذي يميز المجتمعات البشرية”. ولا يمكن القضاء على العداء، وكثيرًا ما تكون الرغبة في فرض إجماع، حيث لا يوجد إجماع، هي التي تحوّل الخلافات إلى صراعات حادة.

تلوّح هاريس لحشد من المؤيدين في ويست أليس بولاية ويسكونسن، 23 يوليو 2024. رويترز

وعلى الرغم من صعوبة هذا، يرى حميد أنه يجب على الأمريكيين الاعتراف الآن، وبطريقة ما، بأهمية التعايش مع الوضع الجديد من الاستقطاب العميق والمستمر. وهذا يعني التخلي عن الوهم بأننا نستطيع العودة إلى الماضي حيث كانت الوحدة الوطنية والإجماع هما الأمر الطبيعي. وهذا الماضي لم يكن موجودًا حقًا، وما علينا إلا أن نتذكر الاضطرابات العنصرية والاغتيالات السياسية والإرهاب المحلي في ستينيات القرن العشرين. وحتى لو كان هذا الماضي موجودًا، فلا يمكننا العودة إلى الوراء لأن القوى الدافعة للاستقطاب لا رجعة فيها، ولأنها نابعة من تغييرات بنيوية عميقة في التركيبة التعليمية والدينية للبلاد.

ويفضل المتحزبون على اليسار واليمين سحق الجانب الآخر ودفعه نحو الاستسلام، ولكنها معركة خاسرة. ففي انتخابات عام 2020، صوّت 74 مليون ناخب لترامب و81 مليون ناخب لبايدن ولن يذهبوا إلى أي مكان. وفي بلد منقسم إلى نصفين، فإن حقيقة الاختلاف ليست شيئًا يجب محاربته، بل شيء يجب قبوله بأقصى قدر ممكن من الحكمة والحذر.

وماذا يعني هذا لأمريكا والأمريكيين؟ أولًا، يجب مقاومة الرغبة في النظر إلى بقية الأمريكيين المخالفين على أنهم “خارجون عن المألوف”، وهو تعبير انتشر في العصور الوسطى، ويعني أصلًا بالإنكليزية الوتد الخشبي المطلي الذي يتم دقه في الأرض لتحديد الفاصل بين القانون الممثل بالنظام الإنكليزي والبربرية المزعومة للرعايا الأيرلنديين الذين استعمرهم الإنكليز.

ومن هنا، فرؤية خصومك على أنهم بحاجة إلى التحضّر ربما لا تكون وصفة رائعة للتعايش.

 وعندما يقرر الأفراد الانخراط في تحزّب الرعاع، فإنهم ينتهون لدعم سياسات ومرشحين ليسوا مضللين فقط، ولكنهم مرفوضون أخلاقيًا. مع أنهم كأفراد يظلون جزءًا من العائلة، أو كجيران وزملاء يستحقون منحهم فضيلة الشك. وعلينا عدم استخدام مصطلحات مثل “فاشي” أو “داعٍ للتفوق العرقي الأبيض” إلا بقدر ضئيل، وتخصيص هذا فقط للنسبة المئوية الضئيلة جدًا من السكان، الذين هم في الواقع فاشيون، أو من دعاة التفوق العرقي الأبيض، أي عنصريون.

ويدرك الجميع أن هذه هي الطريقة الأفضل من الناحية النظرية، إلا أن القول أسهل من الفعل، و”أنا ابن مهاجرين وإذا قررت بدء محادثة مع أحد أنصار ترامب، سيقولون إن أشخاصًا مثل والدي يجب ترحيلهم. ومن هنا، قد لا تكون المناقشة جديرة بالاهتمام. إن اختيار كلٍّ منّا لرسم خطوط حمراء هو قرار شخصي. ولكن هذا القرار لا يمكن اتخاذه إلا على مدار المحادثة، وليس قبل أن تبدأ”.

الكاتب: إذا صوّتَ عددٌ كافٍ من الأمريكيين لصالح ترامب، فلا بدّ أن يكون لديهم سبب للقيام بذلك. وما الديمقراطية إنْ لم تكن الحق في اتخاذ الاختيار الخاطئ؟

ومن هنا، فالهدف ليس التوصل إلى أرضية مشتركة، فالفجوات كبيرة، وتتعلق بقضايا الإجهاض والعرق والهجرة. ولكن الهدف هو تطوير فكرة عن احترام التجارب التي تؤدي بالمواطنين إلى تطوير معتقداتهم السياسية واستنتاجاتهم الخاصة، ذلك أن الأفكار والآراء لا تسقط من السماء، بل تأتي من مكان ما، فالجميع يتعامل مع السياسة بافتراضات مختلفة، عن الدين والله والأخلاق والغرض من الحياة البشرية.

وتعني هذه الاختلافات والانقسامات أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون أبدًا عن التوصل إلى إجماع أو محو الخلاف بالكامل. بل تتعلق بإدارة الاختلاف من خلال المنافسة السلمية، وقبول أن الجانب الآخر سوف يفوز على الأقل في بعض الأحيان.

وعلى مستوى ما، ينبغي أن نتمنى فوز الحزب الآخر، لأنه إن لم يحدث هذا فستتحول أمريكا إلى دولة الحزب الواحد. وقد يبدو هذا وكأنه بدعة سياسية، ففي النهاية، يتم تعليمنا أن نناضل من أجل النصر الكامل إلا أن الديمقراطية التي يتسيّد فيها جانب واحد وإلى الأبد ليست ديمقراطية.

وهذه الفكرة المتناقضة، على ما يبدو، تشير إلى حقيقة أعمق حول السياسة الأمريكية اليوم. فحمّى الاستقطاب لن تنتهي مع الدورة الانتخابية المقبلة أو المزيج الصحيح من السياسات. فهي متجذرة في داخل الديمقراطية الأمريكية، وهي النتيجة الحتمية لتصادم أكثر من 330 مليون شخص مع معتقداتهم وخلفياتهم ورؤاهم المختلفة للحياة الجيدة. و”كلما أسرعنا في قبول هذا، كلما تمكّنا من تجاوز الالتفات إلى الخلافات والتعامل معها على نحو أكثر إيجابية، مهما كانت اختلافاتنا عميقة. وربما نصل ذات يوم إلى التعامل مع استقطابنا باعتباره أمرًا منتجًا، وكشيء يجعلنا مواطنين أفضل وأكثر حكمة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية