لندن- “القدس العربي”:
نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا أعدته شوبان أوغريدي، عن مذبحة رابعة العدوية التي وقعت بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس الراحل محمد مرسي في عام 2013، وقالت إن “حملة القمع في رابعة غيّرت مصر للأبد”.
بالنسبة للناجين من حملة القمع أو المذبحة، فلم تكن وكأن عقدا مضى عليها، فقد لاحقتهم أشباح وأصوات ورائحة ذلك اليوم، عندما كان الموت في كل مكان. حياتهم وبلدهم لن تكون كما كانت. ففي 14 آب/ أغسطس 2013، استخدمت قوات الأمن الرصاص الحي لتفريق اعتصام في القاهرة.
قتل أكثر من 800 شخص، حسبما قالت منظمات حقوق الإنسان، في واحدة من أكبر عمليات القتل للمتظاهرين في التاريخ. وقالت الحكومة إن العدد 624، ولكن العدد الحقيقي قد لا يُعرف أبدا. كما تم اعتقال المئات من المعتصمين وسجنهم، وتم الحكم على بعضهم بالإعدام لاحقا. وفرّ آخرون من البلد ولن يعودوا إليه.
قتل أكثر من 800 شخص، حسبما قالت منظمات حقوق الإنسان، في واحدة من أكبر عمليات القتل للمتظاهرين في التاريخ.
وجاء العنف بعد ستة أسابيع من انقلاب الجنرال السيسي على مرسي الذي انتُخب بعد عام من ثورة 2011، والتي أجبرت الديكتاتور حسني مبارك على التنازل عن السلطة، وحملت معها آمالا في التغيير الديمقراطي بالشرق الأوسط.
وحضر الاعتصام السلمي الآلاف من المصريين الذين اعتصموا لعدة أسابيع في عدة أماكن من القاهرة، وبنوا تحصينات واشترى بعضهم سلاحا، خوفا من هجوم القوات الأمنية. وكان التجمع الأكبر في رابعة، وقالت الحكومة إن من بين المعتصمين إرهابيين ولاعبين خطيرين.
وقال السيسي الذي أصبح رئيسا في عام 2014 لشبكة سي بي أس: “كان هناك آلاف المسلحين بين المعتصمين لأكثر من 40 يوما، وحاولنا كل الوسائل السلمية لتفريقهم”. إلا أن التحقيقات من منظمات حقوق الإنسان، وجدت أن معظم المعتصمين كانوا سلميين.
وتقول الكاتبة إن عملية القتل الجماعي وغياب العدالة، باتت نقطة تحول لمصر، حيث أكدت سيطرة الجيش على البلاد، واستعداده لاستخدام القوة من أجل التمسك بها. وما حدث في رابعة، فرّق العائلات والأصدقاء، وقلب الحياة رأسا على عقب، وعمّق الانقسامات السياسية في البلد. ورغم مضي سنين على المذبحة، فمن الصعب مناقشتها بشكل مفتوح. وفي حديث مع خمسة أشخاص كانوا من الحاضرين في ذلك اليوم، فقد تغيرت حياتهم بسببها، ورصدت الكاتبة الأثر العميق الذي تركته على حياتهم.
ومنهم أحمد سميح (44 عاما) وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان، فقبل 14 آب/ أغسطس 2013، تلقى دعوة للقاء مغلق في وزارة الداخلية المصرية. وبنهاية اللقاء، قال إنه كوّن شعورا أن “التفريق سيكون عنيفا”. وقدّرت قوات الأمن عدد الضحايا من الطرفين بحوالي 3000 شخص، وهذه أرقام أُشرك بها صحافيون في ذلك الوقت.
وقال سميح إن الانقسام حول مستقبل مصر، كان خطيرا، وأن العنف في الهواء: “البعض ممن كانوا سلميين طوال حياتهم قالوا: يجب قتل الجميع”. وفي صباح يوم العملية، انطلق سميح عبر القاهرة لكي يكون شاهدا: “فقط أردت رؤية الحقيقة”، وانبعث الدخان من العجلات المحترقة، وكان الدم في كل مكان على الأرض ولطخ السيارات. وبحلول اليوم التالي، أحصى سميح 152 جثة في المشرحة.
وكان اختلاف الآراء بشأن ما حدث سببا في تدمير علاقاته: “لدي أصدقاء لا أتحدث معهم ولا يتحدثون معي.. بعد رابعة تغيّر كل شيء في مصر”. وظلّ لوقت طويل “لا يريد أن يصدق أو يشعر أن الأماكن العامة قد تقلصت”، واستمر في عمله بمجال حقوق الإنسان، ثم اتُهم في 2015، بأنه يدير إذاعة محلية عبر الإنترنت. وفتشت قوات الأمن مكتبه، وتم تغريمه، وأُمر بالحضور كل ليلة إلى مركز الشرطة.
وفي العام التالي، عندما كان يراقب الانتخابات في أوغندا، تلقى تحذيرا من شخص يعرفه في القاهرة، بأن اسمه على قائمة المتهمين، وسيُدان بتهمة تلقي تمويل أجنبي. وعاد سميح إلى مصر لمدة 24 ساعة، ومنح والدته تفويضا قانونيا لكل ما لديه من أرصدة، وفرّ إلى إستونيا التي لديه إقامة فيها. وفي 2021 بدأ بالعمل مقدما للأخبار في قناة “الشرق” التي يديرها المعارض أيمن نور في إسطنبول، ولا يعرف إن كان سيعود أبدا إلى مصر.
ما حدث في رابعة، فرّق العائلات والأصدقاء، وقلب الحياة رأسا على عقب، وعمّق الانقسامات السياسية في مصر
بالنسبة لأمل سليم (54 عاما) وسارة علي (34 عاما) العائلة الثاكلة فالوضع مختلف. ففي 14 آب/ أغسطس 2013، غادر محمد علي، الإداري في مستشفى، وعضو حركة الإخوان المسلمين، البيت إلى ميدان رابعة، وقال لسارة إنه يريد التأكد من تأمين إجلاء النساء والأطفال، لكنها ناشدته بالبقاء، و”قال، لو كان قدر الموت فسأموت.. مع السلامة، وطلب مني مسامحته”.
وتضيف الكاتبة: “شعرتْ بالخوف من التقارير عن إطلاق النار، ظلت تتصل به للتأكد من أنه لا يزال على قيد الحياة، وكانت ابنتها سارة تتصل بوالدها أيضا، وكانا يتحدثان عندما انقطعت المكالمة”.
وعندما أعادت سارة الاتصال، أخبرها شخص أن قناصا أطلق النار وأصاب محمد برأسه. وتقول: “لقد مات وأنا على الهاتف معه”، واتصلت بشقيقها عمر، وهو صحافي مواطن كان يوثق الفوضى في رابعة، وأخبرته وطلبت منه العثور على جثة محمد، ولم يتم العثور عليها في أي من العيادات الميدانية.
ومن أجل الحصول على معلومات، وضعت هاتفه على فيسبوك وطلبت معلومات. وفي اليوم التالي، اتصل بها شخص من رقم مجهول وأخبرها أن جثة والدها رميت في شارع جانبي. وقامت مع عمر باتباع إرشاداته، وقال عمر: “لقد حملت والدي ووضعته في القبر ودمه على ملابسي”، وأخبر عمر والدته بما حدث عندما عاد إلى البيت.
وبعد فترة من الكآبة، طمأن عمر والدته بأنه سيساعد على إدارة البيت وتنشئة شقيقتيه الصغيرتين، حيث كان يدرس في كلية الهندسة. وبعد ثماني سنوات، اعتُقل عمر عندما كان في مطعم مع أصدقائه، وظنّت العائلة أن الاعتقال كان خطأ. ومع مرور الوقت، بدأت تعتقد أن اعتقاله هو عقاب له على نشاط والده. وأُدين في النهاية بتهمة “الكشف عن أسرار عسكرية” وحكم عليه بالسجن مدة 25 عاما بدون أي فرصة للاستئناف. وأدى ذلك لإصابة أمل سليم بانهيار عصبي، وتقول: “لقد خسرت زوجي، اختفى فجأة وانهار كل شيء”.
وفي الصيف الماضي، بدأت سارة بالمعاناة من الهلوسة والتشوش وفقدان النطق، وتم نقلها إلى مستشفى للأمراض العقلية، وشُخصت بأنها تعاني من آثار ما بعد الصدمة، ولا تزال تندب والدها، وفي بعض الأحيان يزحف السخط عليها. وكان والدها هو الشخص الوحيد في العائلة الذي انتمى للإخوان ولكنهم دفعوا الثمن. وقالت: “لا يوجد أي مبرر لما حدث له.. ولكن لماذا أدفع ثمنه؟ ولماذا يقضي شقيقي كل هذه السنين في السجن”.
وتتسلل ذكريات رابعة إلى ذاكرة الصحافية لينا عطا الله (40 عاما) عندما لا تتوقعها. ضغطٌ شديدٌ في بطنها أو ومضة في عقلها، وهي تحاول النوم. فقد كانت صحافية شاركت في إنشاء موقع “مدى مصر” وغطت اعتصام رابعة في ذلك الصيف، واستيقظت صباح 14 آب/أغسطس، وسارعت مع زميل إلى مكان الاعتصام، ولم يكن لديهما أدوات حماية.
ومع تقدم قوات الأمن، حُشرا بين الجماهير قرب مستشفى ميداني. وتتذكر عطا الله الجثث، ورجلا كان يحمل بطاقات الهوية للقتلى والناس الذين كانوا يحاولون إنقاذ بعضهم البعض. ومع انهمار الرصاص، وجدا طريقة، حيث أمسكا بيدي بعضهما وفرّا. وتقول: “اللغة التي لدي لا تنقل كثافة الحدث”.
وفي الأشهر التي تبعت ما حدث في رابعة، انغمست في عملها حتى لا تصاب بالكآبة، وفهمت أن “رابعة هي بداية شيء سيئ للغاية”. واعتُقل بعض أصدقائها الناشطين والصحافيين، ومنهم علاء عبد الفتاح الذي قضى معظم العقد الماضي في السجن بتهم واهية. وفي 2017، تم حجب موقع “مدى مصر”، لكنه لا يزال عاملا حيث يجد القراء في مصر طرقا للتحايل على المنع.
رابعة كانت فرصة للجيش “لاستعراض عضلاته” وإرسال رسالة لا غموض فيها: لا أحد ستكون له حرية التفكير أو الاحتجاج أبدا في مصر
ولا يزال رجل الأعمال مو (58 عاما) يتذكر كيف مات الرجال أمامه. أولا، شاب كان يختبئ خلف شجرة، والذي أطلق نفسه الأخير وانهار و”عندما فحصته، كانت هناك رصاصة في القلب… قتله قناص”. ثم سائق سيارة إسعاف، قُتل وهو يرتدي الزي الطبي: “لقد انقسم رأسه لنصفين”، وكان زميله يصرخ ويبكي.
وصل مو، رجل الأعمال البارز إلى مركز اعتصام رابعة في الساعة السادسة والنصف صباحا، وهو ليس عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، لكنه حضر إلى هناك لكي يحتج على ما رآه سيطرة الجيش على السلطة. وتم اعتقاله وأُجبر على تسليم هويته قبل أن يغادر الميدان.
وخوفا من ملاحقة السلطات له، فرّ إلى الولايات المتحدة بعد ثلاثة أيام، ولم يعد أبدا. وطلب عدم الكشف عن هويته خوفا على سلامة معارفه في مصر. وتعرضت أعماله في السنوات اللاحقة للحرق والهجوم، وتحرشت الحكومة بعائلته إلا في حالة وافق على التخلي عن أصوله المالية.
وقد كان رجل الأعمال هذا في وقت من الأوقات، من النخبة، لكنه اضطر للبدء من الصفر في المنفى “تخليت عن كل شيء”. ويرى أن رابعة هي “بداية لمحو كل شيء له علاقة بـ2011”. ويقول إن رابعة كانت فرصة للجيش “لاستعراض عضلاته” وإرسال رسالة لا غموض فيها: “لا أحد ستكون له حرية التفكير أو الاحتجاج أبدا”.