للمشاركة في الندوات العلمية نكهتها الخاصة، باعتبارها أولا، مجالا نموذجيا لإعمال النظر في الإشكاليات المعرفية المقترحة على المشاركين، إلى جانب اعتبارها فرصة لتجديد التواصل الثقافي والإنساني، مع الصداقات الأكاديمية القديمة، وباقي الكفاءات التي تتلمس موطئ قدم لها في المجال.
فبهذه المتعة المضاعفة يتقدم المشارك من عتبة اللقاء، كي يتأكد – مع تتالي المداخلات- بأنه لم يبرحها، مكتفيا مع ذلك بتقليب النظر والسمع في ما لا سبيل لسماعه أو رؤيته، حيث يظل إشكال الندوة المعني بالمقاربة، متخفيا وراء حجب ثقيلة من الاستظهار المفاهيمي، السعيد بتدفقه السردي من كافة النقاط التي يتحصن بها المتدخلون.
إن الأمر هنا، لا يتعلق بمنطق تعميق النقاش في الأسئلة المفصلية التي تطرحها محاور الندوة، بقدر ما يتعلق بطقس استعادي بحت، يتم خلاله استحضار أرواح مقولات وأنساق نظرية من مكامنها الأصلية، احتفاء بصنميتها، وبقابليتها للاستمرارية والبقاء. بصرف النظر عن خصوصية وطبيعة السياق المعرفي المستحضرة فيه. وهو طقس يعتبر في حد ذاته جديرا بالنقاش، بفعل هيمنته على أجواء أغلب الندوات المنظمة عادة في فضاءاتنا الأكاديمية. كما لو أن الجميع ملزم بالوفاء ببنود ميثاق رمزي، غير مدون، وغير معلن، يمارس سلطته الخفية على الحاضرين، ويقضي بواجب تأكيد إلمامهم وتبعيتهم اللامشروطة لمقولات الأرواح المستحضرة، ولما عاشته في حياتها وموتها من محكيات، بكل ما يعتمل فيها من تناقضات واختلافات، أو اختلالات، يستوجب ضبطها في الحالات الطبيعية، فصل بعضها عن بعضها الآخر، بوضعها في أنساقها الخاصة بها. وهذا الفصل الذي يفترض فيه أن يكون واعيا بآليات اشتعاله، يعتبر ضروريا، من أجل تحديد العناصر القابلة للتفاعل والاندماج، في صلب الإشكاليات المثارة. الشيء الذي يظل في حكم المستحيل، جراء غياب أي رؤية أكاديمية واضحة.
وإذا كان من الضروري توصيف ملابسات إحياء الطقس، فيمكن اختزالها أساسا في اتخاذ الموضوع ذريعة لذلك، وبمنهجية فرجوية، بدون التورط في مزالق إشكالياته النظرية والمعرفية، حيث تتتالى تدخلات المشاركين وفق الحيز الزمني المخصص لهم، من أجل إنجاز مهمة استحضار المرجعيات /الأرواح، في صيغة قبعات توضع قسرا على رأس الموضوع، بدون أن تكون متسعة له ولإشكالياته.
وهي وضعية في غاية البؤس محورها طقس قد يمتد لثلاث ساعات أو أكثر، يتنافس خلاله المتدخلون في إثبات قدراتهم على التملص من انتظارات الموضوع، الذي من أجله تمت دعوتهم، بسردهم لمحكيات متشابهة تنتظم فيها أكثر المقولات النظرية تداولا، والمستندة إلى المرجعيات نفسها، التي تتخللها بعض الاختلافات الشكلية، الموهمة باستقلالية الرأي وتنوعه. فيما هي مستقاة من الجراب المهترئ نفسه الذي طاله البلى، من فرط تهافت الأيدي على المقتنيات المحشوة فيه.
وتوخيا منا لعامل الموضوعية، سوف لن نتردد في التأكيد على الأهمية القصوى، التي يتميز بها الفضاء الأكاديمي، باعتباره فضاء مؤتمنا على صيانة المعارف، والحفاظ عليها من حيث التوثيق، والتخطيط والبرمجة. بما يقتضيه ذلك من حكامة علمية، معززة بروح المسؤولية، إنه بهذا المعنى، السند للمركزي للذاكرة المعرفية بمختلف اختصاصاتها ومرجعياتها. كما أنه الإطار المرجعي الذي لا يمكن للباحث أن يتجاوزه في مقارباته لمختلف ما يتردد عليه من حقول علمية، بما تفيده المقاربة هنا من توافر مقومات التوصيف والبحث والتساؤل، على أرضية المقارنة والاستقراء والاستدلال والبرهنة. وكلها مقومات موجهة برؤيتها النظرية، المؤطرة بقوانينها وثوابتها.
الفضاء الأكاديمي لا يمكن أن يتفاعل مع ذوات مسطحة مهووسة بانتحال صفته على ضوء استظهارها الأعمى لبعض المقولات أو المرجعيات
وفي معرض تنويهنا بالأهمية الكبرى التي يتمتع بها الفضاء الأكاديمي، في توجيه رؤية الباحث المتخصص، وفي إضاءة ما يتفرع ويتداخل أمامه من مسالك، سيكون من الضروري التأكيد على أن هذه الأهمية تستمد مشروعيتها، مبدئيا، من عمق القلق المعرفي لدى الباحث. لأن الفضاء الأكاديمي لا يمكن أن يتفاعل مع ذوات مسطحة مهووسة بانتحال صفته على ضوء استظهارها الأعمى لبعض المقولات أو المرجعيات، أو من خلال استثماره الظرفي والعابر لسجلاته المعلوماتية، واختزاله في مدونات مسكوكة. إنه عكس ذلك، يتوخى التفاعل مع ذوات معرفية، مسكونة بأسئلتها الخاصة، وممسوسة بقلقها الفكري، الذي يتعامل مع الإواليات الأكاديمية، باعتبارها وسائط لتفعيل عملية البحث والسؤال، وليست غايات في ذاتها، أي ليس باعتبارها مجرد بهارات، ومحسنات نظرية، يتم تأثيث الخطابات المرتجلة والمزاجية بها.
ومن المؤكد أن المرحلة تغص بهذه النماذج الرديئة، التي استطاعت بفعل تفاقم عددها، أن تحرف مسار البحث الأكاديمي، والحال أن حشودا غفيرة من حاملي شارة الباحث الأكاديمي، تندرج ضمن هذه الخانة الميؤوس منها، بدون أن يكون لها أدنى وعي بذلك. وأعضاؤها جد معذورون، لكونهم يمتلكون ما يكفي من التبريرات الذاتية و»الموضوعية»، المستندة إلى مقولات عنف اشتغال آلات التحديث المتوحشة، التي لم تعد تسمح «لهم البتة بالتورط في أي مستوى من مستويات التأمل، أوممارسة التفكير».
من هذا المنطلق، سيصبح للندوات الأكاديمية المنظمة من قبل غير قليل من المؤسسات والمنظمات العربية، رؤية مختلفة ومغايرة، لما هو عليه الأمر في فضاءات معرفية ما، حيث يتعلق الأمر حاليا، برؤية مرنة ومتخففة من أعباء الواجب الفكري، ومن ترسانة القوانين والأعراف الأكاديمية، وإكراهاتها التقليدية التي يطغى عليها منطق الحجاج والجدل، ومقارعة الحجة بما هو أكثر إقناعا وأشد تماسكا.
رؤية قوامها التكيف الأنيق واللبق مع الواقع، والاكتفاء من المعطيات/المعلومات، بالقليل الذي يليق بطبيعة المقام، والمسعف لتغطية المسافة الزمنية المخصصة له.
أيضا، وبفضل الاستفادة من تلوينات الاستطراد الشفاهي، سيكون بوسع «المداخلة ” أن تتحرر أكثر من التزاماتها. ما يجبر الرصانة الأكاديمية على الانسحاب إلى جحرها، كي تفسح المجال للتمادي في لعبة التراشق الفرجوي، بشهب معلوماتية، مريحة للنظر، بدون أن تشذ عن تشكيلاتها المتوقعة، سواء من قبل المتدخلين، أو من قبل الحضور، الذين ليسوا هم في الواقع سوى أقربائهم المتفرقين على مضض، أو عن طيب خاطر، بين جنبات القاعة.
شهب ليس لها أن تخطف الأبصار، وليس لها أن تبهر أحدا، أو تحدث فيه أذى معرفيا، قد يؤدي، لا قدر الله، إلى تفجير أسئلة أو إشكاليات شائكة ومعقدة من شأنها الإضرار بتناغم القاعة وانسجامها. أو بخلق حالة ارتياب لا حاجة للمنظمين بظلها الثقيل، في ندوة لا تعدو أن تكون زيارة حميمية للمنتزه الأكاديمي.
وفي اعتقادنا أن الإطار التنظيمي لمثل هذه الندوات، بما يميزه من تواطؤ غامض ومشترك على ادعاء شرعية علمية مشكوك في مصداقيتها، يتماهى بشكل أو بآخر، مع الوضعية المتردية التي تعاني منها المسألة الجامعية والتعليمية ككل، في عالمنا العربي.
إنها وضعية مؤسسات، يتقن القائمون عليها ممارسة سياسة إهدار الطاقات الفكرية، والملكات الفنية والإبداعية، بمنهجية جد متقدمة، تضمن لها كافة شروط الاستقرار الدائم في الدرجات المنسية، والمستبعدة من تقارير التصنيف العالمي للمؤسسات الأكاديمية. وذلك من منطلق اعتبارها- ربما- مجرد منتزهات محلية للتسلية المعرفية، لا أكثر ولا أقل.
٭ شاعر وكاتب من المغرب