طغت على الفكر السياسي العربي وجهتان في الفهم أخلتا بالتحليل الواقعي والمقاربة المنهجية، أولاهما تنطقُ بنظرية المؤامرة، وتُفسر من خلالها كل الأحداث والتأثيرات التي تحدُثُ في المنطقة. وثانيتها التأثر التام بالغرب وبالولايات المتحدة تحديدا، وتقديمها كقوة عادلة تنشر الديمقراطية وتحرس حقوق الإنسان، وتُنيرُ العالم بالمدنية الحديثة والديمقراطية الليبرالية المتقدمة. ومثل هذا الفهم عطّل مبدأ البحث عن الحلول الحقيقية لمواجهة المتغيرات الدولية خارج منطق الاستسلام والمغالطة والتبرير.
وفي غياب المثالية في العلاقات الدولية من منظور واقعي، يجب فهم عمق الأداء الاستراتيجي من أجل التجاوب الفاعل مع القضايا الدولية، والبحث عن الندية والتعامل المجزي، في عالم مازال يسوده منطق القوة، ويعكس ذلك التوظيف غير الموضوعي للقانون الدولي والرغبة في الإبقاء على التفوق الغربي، والتحكم في الآخر وتركه في حالة التبعية. وهو سياق يَسْهُلُ من خلاله تفسير النظر إلى الدول الساعية لامتلاك القوة، بأنها متمردة ومارقة من الضروري فرض العقوبات على كياناتها الاقتصادية والمالية بدون تردد .
في الأثناء، من البين أن السياسات الدولية تُراوح مكانها بين التطرف والاعتدال، وإن كانت إلى منطق القوة أقربُ، فالقوة هي بلا منازع محور الارتكاز في العلاقات الدولية، والدول الكبرى تتصرف وفق مصالحها وسجل القانون التعاقدي أو الأخلاقي الإنساني هو خارج حساباتها، في أغلب الأوقات. ومع فقدان الدول قدسية حدودها السياسية لم تستطع الوقوف في وجه الموجة الثالثة «العارمة»، كما وصفها ألفن توفلر، وهكذا صعدت امبراطوريات وهبطت أخرى بفعل التفوق التكنولوجي والتقني، فالقدرة على اكتساب التفوق التكنولوجي والمالي، هي من أبرز معايير القوة القومية للدولة التي تستطيع إعادة تشكيل دينامية السياسة الدولية، باعتبار تلك المعايير هي قاطرة التغيير في السياسة العالمية وعلى جميع الأصعدة. ويرفد ذلك الغزو الاعلامي كتوجه استراتيجي منظم، يرتبط بتوجهات النظام السياسي وأجنداته، وهو يخضع لعمليات تطوير بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي. وتسعى الولايات المتحدة، وهي أبرز من يُذكر في هذا السياق، إلى السيطرة على عقول الناس عبر الإعلام الرسمي، وذلك لشل قدرات الجماهير التحليلية وجعلهم يستسلمون لتنفيذ المخطط السياسي والثقافي متعدد الوجوه، الذي يخدم مشروع الهيمنة عبر التسويق للمنوال الأمريكي والغربي عموما .
الدول الكبرى تتصرف وفق مصالحها أما سجل القانون التعاقدي أو الأخلاقي الإنساني فهو خارج حساباتها على الأغلب
مثل هذه المسارات هي من أبرز تمثلات العولمة الثقافية والنفسية المحتكَرة أمريكيا منذ عقود، في سعيها الدائم إلى فرض السيطرة والحفاظ على هيمنتها على نسبة مهمة جدا من القرار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والثقافي حول العالم. وإن كانت أوروبا تحث الخطى في البحث عن هويتها السياسية انسجاما مع ما صرح به الرئيس الفرنسي ماكرون، منذ وقت قريب، حول حاجة دول الاتحاد الأوروبي لصياغة مقاربة عسكرية واقتصادية خاصة بها، وقُوبل كلامه بامتعاض أمريكي، فإنها مع ذلك مازالت مرتاحة في الاعتماد على الولايات المتحدة، وهي تتذيل وراء القرار الأمريكي في كل المناسبات. أما روسيا والصين فغير قادرتين آنيا على الحضور بقوة ثورية لقلب النظام العالمي الأحادي والمتغطرس، وهما تجتهدان لخلق نوع من التوازن في إدارة العالم والحد من التفرد الأمريكي في الممارسة السياسية والعسكرية على نطاق أممي، رغم أن كليهما لم تتعاف بعد اقتصاديا، خاصة روسيا التي خسرت امبراطوريتها منذ عهد قريب. ومن المؤكد أن ريادة الولايات المتحدة و»الليبرالية الديمقراطية الغربية» معنية تماما في مثل هذه اللحظة التاريخية بتطلعات الصين وحضورها المالي والتجاري القوي، واتحاداتها المُعلَنة مع مجموعة «البريكس».
وفي المحصلة، إن كان أقصى ما تبحث عنه القوى المنافسة للولايات المتحدة في المدى المنظور إعادة التوازن للعلاقات الدولية في غياب جاهزيتها للاضطلاع بدور القيادة، يبقى من الجيد في عالمنا اليوم خلق عالم متعدد الأقطاب، يتم فيه الاحتكام للقانون الدولي وإعادة الاعتبار للمواثيق الدولية التي مزقت شرعيتها أمريكا وحلفائها لعقود متتالية، ما أدى إلى سقوط الرصيد الأخلاقي للمنظمات الأممية، خاصة الأمم المتحدة، وأبرز أجهزتها المتمثلة في مجلس الأمن بالنظر إلى ازدواجية المعايير، وعدم انصاف الدول الضعيفة والمستعمَرَة والسماح بالحروب الهمجية، بل تبريرها أحيانا.
كاتب تونسي
سلمت أناملك
تسلم أستاذ رشيد
أشرقت أيامك