بتاريخ 31 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تشكّلت صورة أخرى من صور عطب النظام السياسي العراقي. فبعد صراع مرير ومساومات طويلة استمرت لمدة عام، من أجل إعادة ترتيب المصالح المتبادلة، التي بسببها اندثرت تحالفات وتحولت إلى خصومات، وتشكلت تحالفات بعد طول خصومات، اتفقت جميع الأطراف على إعادة عربة القيادة القديمة إلى السكة المعطوبة، التي يسير عليها البرلمان العراقي، وتم الإعلان عن عودة محمود المشهداني إلى منصب رئيس مجلس النواب.
وقد سبق للمشهداني أن كان في المنصب نفسه بين عامي 2006 إلى 2010، لكن تمت إقالته، وفي عهده تحوّلت قاعة المجلس النيابي إلى ساحة سيرك، تبارى فيها الجميع بالشتائم تارة، وبالتهديد وفتح الملفات على بعضهم بعضا تارات أخرى، وقد شاركهم المشهداني من موقعه القيادي بإطلاق النكات والصراخ وتعنيف هذا أو ذاك، والانبطاح لهذه الجهة أو تلك. كما عمل كثيرا وبحرص باذخ على الحصول على شهادة حسن سيرة وسلوك من إيران، ومن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الممسكة بدفة الأمور، التي لا تسمح لكل من هب ودب من غير مذهبها الديني السياسي بالوصول إلى أي منصب، من دون أن يحصل على مباركتها ويضع في رحلها خَراج المنصب ماديا ومعنويا. وهي حالة باتت من المسلمات الأساسية في العملية السياسية القائمة، وشرطا من شروط الوصول إلى المناصب، سواء كانت من الصف الأول أو العاشر.
وهنا تبرز مسألة في غاية الأهمية، تتوضح من خلالها طبيعة النظام السياسي القائم في العراق، فإقالة أي مسؤول من أية سلطة كانت تشريعية أم تنفيذية أم قضائية، في النُظم السياسية القائمة على الدستور والقانون، تعني أن تلك الشخصية قد فشلت في أداء مهامها على أكمل وجه، أو أنها استغلّت المنصب بما يتناقض مع قوانين وأعراف الشرف الوظيفي والنزاهة والعفّة. وبالتالي لا بد من إنهاء الحياة السياسية لذلك المسؤول، بإبعاده عن أي منصب آخر في المستقبل، إلا في العراق فإن المسؤول المُقال على استحياء، يجري استرضاؤه بمناصب أخرى، حسب طبيعة ونوع الحجج والمبررات التي أدت إلى إقالته. فإذا كانت الفضيحة كُبرى وتتطلب عدم ظهوره بشكل علني في الساحة السياسية لفترة زمنية معينة، كي ينسى الناس فعلته، فإن المناصب المُصممة على هذا القياس هي غالبا ما تكون بصفة مستشار لرئيس الجمهورية، أو رئيس مجلس الوزراء، ولن يتطلب البحث في هذا الأمر الكثير من العناء للوصول إلى الحقيقة، سوى إلقاء نظرة على الكم الهائل من المستشارين للمنصبين الأخيرين، بما يفوق عدد المستشارين لرئيسي الولايات المتحدة وروسيا. أما من تتم إقالته بسبب فشله في تقديم خَراج المنصب إلى الجهة السياسية الفاعلة، أو تلكؤه في تنفيذ المتطلبات التي جرى الاتفاق عليها من مصالح معنوية حزبية وفئوية، فإن عودته إلى أي منصب سياسي آخر، أو المنصب نفسه الذي كان يشغله، ممكنة، في حالة تقديمه ضمانات مكتوبة ومشفوعة بالقسم على ذلك. ولَكُم في واقعة طلب رئيس مجلس النواب السابق من قبل بعض النواب، الذين ينتمون إلى كتلته السياسية، التوقيع على أوراق بيضاء لضمان طاعته ولزوم أوامره واجتناب نواهيه، خير دليل على ذلك.
كل الوقائع التي أنتجتها العملية السياسية في العراق على مدى أكثر من عشرين عاما، بعيدة كل البعد عن متطلبات العمل السياسي الحقيقي، الذي يعتصم الناس به وينشدون فيه التغيير
وهذه ليست الحادثة الأولى في تاريخ العملية السياسية القائمة، بل سبقتها حوادث مماثلة موثّقة في فيديوهات منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، يضع فيها زعيم الكتلة، كتاب الله أمامه كي يُقسم عليه النواب أو الوزراء الذين ينتمون إليه سياسيا، إذن نحن أمام ما يمكن تسميته باستراتيجية واضحة من الانحراف والتكرار، ثم يكررون العملية برمتها مرة أخرى. إن كل الوقائع التي أنتجتها العملية السياسية في العراق على مدى أكثر من عشرين عاما، بعيدة كل البعد عن متطلبات العمل السياسي الحقيقي، الذي يعتصم الناس به وينشدون التغيير من ورائه. والمسألة هنا ليست أمرا فرديا يتعلق بالأشخاص، أو جماعيا يخص هذه الفئة أو تلك، بل العلة موجودة في بُنية النظام السياسي القائم. فهو نظام لا يمكن المُراهنة عليه بأي حال من الأحوال، لأن روح التطور الكامنة في الأنظمة السياسية الحقيقية والكاملة الصحة والأهلية غير متوفرة فيه، وأن كل من يُراهن على نفخ الروح فيه، واهم. فهناك كيانات نشأت وبات لها اسم وموقع في خريطة النظام الدولي، في غضون عقدين من الزمن.. وهناك دول تهيأت لها منظومات سياسية وطنية ومخلصة نهضت بها من واقع القرون الوسطى، وأصبحت في مصاف الدول المتقدمة، رغم فقرها في مجال الثروات الطبيعية، استغرقت الفترة نفسها. بينما ما زال العراقيون يُعانون من الفقر والجوع والبطالة والإقصاء والتهميش وسلب الحريات، وفقدان أبسط مستلزمات الحياة من ماء وكهرباء وشبكة مواصلات وتعليم وصحة، رغم كل الموارد المادية الهائلة التي دخلت خزينته خلال العقدين الأخيرين.
لقد امتلك النظام السياسي القائم في العراق مهنة تحدي الأعراف السياسية والجاذبية السياسية في مسيرته البائسة والمعطوبة، ولو كان صانعا لأية قواعد سياسية رصينة في البلاد، لما كان كاسراً لكل القواعد السياسية المتعارف عليها. ولو كانت لديه الرغبة والإرادة في التخلي عن غرائزه الهدّامة، لسعى لوضع قواعد سياسية صحيحة يسير عليها. وعندما يتم إجراء أي حساب سياسي نهائي اليوم من قبل أية جهة مُحايدة وليست مُعارضة، فسيكون من الصعب على أية شخصية كانت، أو جهة مشاركة في العملية السياسية، الاختباء من العدد الهائل من الموبقات السياسية والمالية والأخلاقية والقانونية، ويقينا هم جميعهم على دراية تامة بالتُهم التي ستوجه إليهم، فقد ابتعدوا عن صنع تاريخ لهم ولو ليوم واحد. وكانت عقيدتهم السياسية هي الإيغال في غيّهم وعدم الاعتذار، أو التخلي عن هذا الطريق أبدا، بل بقي النهج المُتّبع لديهم يتلخّص بعبارة (آسف لست آسف)، وبذلك أصبح الهروب من المسؤولية ينمو لديهم يوما بعد يوم، حتى أخرجوا الدولة من حياة الناس وأصبحت شيئا هُلاميا غير محسوس ولا معروف، فدفعوهم للعودة إلى عصر ما قبل الدولة، حيث القبيلة والعشيرة والطائفة والقومية والإثنية. كما بانت الانفجارات عن المسارات بشكل عام تضرب عموديا وأفقيا في المجتمع العراقي. لذلك عليهم أن يعرفوا أنه لا توجد ظلال رمادية في عدم التسامح مُطلقا، لذلك فإن الثمن لكل هذا الوباء الذي ضرب العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، سيتعين على جميع الشركاء دفعه عاجلا أو آجلا، إما نقدا أو في رأس المال السياسي أو كلاهما.
صحيح أن السياسة، مثل الحياة، مليئة بالمفارقات الكبيرة والصغيرة، لكن خداع الناس وإغراقهم في المأساة، دائما ما تكون نتائجها صادمة على الطبقة السياسية.
كاتب عراقي