يحتفل الشعب الفلسطيني، في السابع عشر من إبريل/نيسان من كل عام، بيوم الأسير الفلسطيني؛ وتشهد جميع محافظات الوطن، على مدار أسبوعين كاملين، سلسلة من الفعاليات والنشاطات الشعبية والرسمية، التي تقام ليؤدي المشاركون فيها تحية المجد لأبناء الحركة الأسيرة، وليتوّجوهم بأكاليل الغار، عرفانًا بما قدّموا ويقدّمون من تضحيات في سبيل نيل الحرية الفلسطينية وكنس الاحتلال الإسرائيلي.
تعيش فلسطين، في هذه الأيام، كما في كل عام، حالة من الفرح العذري الملتبس، وتحتضنه، كما تحتضن الأم ضفائر ابنتها العروس، برفق وبحفنة دموع، وتزنّره بنور وبحناء ونار. إنه نيسان الفلسطيني، فيه تنفتح أبواب السماء فينهمل منها الحنين ويهوي الجوى، ليزهرا، على عتبات البيوت، شوقًا شفيفًا وأملاً مؤجلاً.
لن يفهم البعيدُ عن أرض الوجع كيف تكون تباريح السواسن في نيساننا، ولن يستوعب من لا يعيش في أرض الأساطير، قاتلة الأنبياء، معنى رجفة الفلّ على شرفة «أم يوسف، الأمعرية»، وهي تجلس فوق ركام بيتها وتعدّ نجوم «السماء السبعة» وتقسم أن تقهر عدوّها ببسمتها المعذبة الشقية فحسب.
قد لا يناسب « الأدب» مقالًا يعالج «تردد إبريل» في هذه الذكرى ويداوي لواعجها، وقد لا تفيد الكتابة عنها بمباضع البديع وبالزخرف؛ فالواقع في الأراضي الفلسطينية رماديّ كالصخر، والمعطيات عليها مستفزة كمرض عضال، والقهر مستفحل واحتلال الغريب مستحكم بعربدة وخبث لم نعهدهما مذ وطئ ذلك الحزيران اللئيم حرير خواصرنا. كل بيت في فلسطين المحتلة شرَق بدمع الشهادة أو بكى، على وداع أعزائه، حين كانوا يمضون على طريق الجمر، ويدفعون ضريبة العز والوفاء، سجناءَ وراء قضبان القهر وتحت سياط الجلّاد.
تشير احصائياتنا إلى أن قرابة المليون أسير دخلوا سجون الاحتلال منذ عام 1967، بينما يصل عدد من يقبعون اليوم فيها إلى قرابة خمسة آلاف وسبعمائة أسير، من بينهم مئتان وخمسون طفلاً/ حدثاً، علاوة على ستة وثلاثين طفلا مقدسيًا نُقلوا للاعتقال المنزلي، وخمسة قاصرين محتجزين في ما يسمى بالإصلاحيات أو «مراكز الإيواء» ؛ وكذلك هنالك سبع وأربعون أسيرة وما يقارب الخمسمئة أسير إداري، وعدد كبير من المرضى، بينهم بضع عشرات ممن يخشون غفوة القدر ويعيشون كشهداء على «همزة» الريح وجنونها ..لن استرسل بتزويدكم بالأرقام وبتصنيف الفئات والمسميات، عِلمًا بأننا شعب يحب الإحصائيات، ويجيد مضغها في المناسبات ومن على المنابر؛ ولكنّ واقع الحركة الأسيرة، بمجملها، مقلق ومريض، فهي تمر بمرحلة حرجة وتواجه مؤامرة مصيرية خطيرة. ليس من الصعب أن نفهم لماذا يحاول قادة اسرائيل وساستها بذل هذه الجهود الجبارة في محاولات مستمرة منهم لكسر شوكة الحركة الأسيرة، وملاحقة أفرادها المحررين؛ فمن يفتش عن الأسباب الحقيقية سيجدها مطوية في صفحات تاريخ هذه الأجيال، التي اختارت طوعًا، رغم فداحة الثمن، أن تناضل ضد الاحتلال، وتؤكد بخيارها وعبر مواجهاتها المباشرة – وهنا العبرة والخلاصة – على أن العدو الأول للشعب الفلسطيني ولمصالحه كان، ولمّا يزل، الاحتلال، وهو فقط؛ وعلى جميع الفلسطينيين، بدون أي استثناء، تحييد كل التناقضات وكل المناكفات القائمة بينهم، ومواجهة الخطر الأساسي الكبير؛ فبدون كنس الاحتلال ستبقى كل المسارات الفئوية/الفصائلية مجرد فذلكات سرابية وجرعات مخدرة، وبدون الوحدة النضالية الحقيقية الجامعة، ستكون كل أنماط الحياة المقترحة مشوهة ومنقوصة، وستتحول جميع الزيجات «العرفية» مع الاحتلال مصدرًا للذل والهزائم.
«من ينشد العيش بدون احتلال سيدفع نصف قلبه للأسى، ويربّي في نصفه الآخر الوعد بفرح مؤجل، لكنه آتٍ ذات يوم»
للحقيقة وللأمانة لم تتخلّ فلسطين الرسمية عن أبناء الحركة الأسيرة، وقد احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية تاريخيًا، وما زالت، جميع كوادر الأسرى وحاولت أن تنصفهم بشتى الوسائل وعلى جميع المستويات؛ فقادة المنظمة آمنوا بأهمية وبدور الحركة الأسيرة التاريخي، وبما يمثله وجودها، وطنيًا وسياسيًا، وبكونها النقيض الواضح والحاضر دومًا لوجود الاحتلال ولهدوئه واستقراره. لقد تبنّت السلطة الفلسطينية، منذ إنشائها، أبناء الحركة الأسيرة، وتصرّف قادتها بما يمليه واجب وضمير «السيادة السياسية» الوطنية، حتى لو كانت منقوصة، تجاه أبنائها وتجاه أفراد عائلاتهم، وتمسّكوا بموقفهم، وما زالوا، رغم شراسة هجمة الحكومة الاسرائيلية الأخيرة، وموقف الولايات المتحدة الأمريكية وعناصر دولية أخرى؛ فقادة السلطة على قناعة صحيحة بأن أي تنازل أمام المطالب السياسية الإسرائيلية المهينة، يعني في الواقع هزيمة رواية «الثورة الفلسطينية» أمام «الرواية الصهيونية» بما يفضي إليه ذلك من عبث، فالمناضل الفلسطيني سيتحوّل إلى إرهابي ومجرم، وسيصير المستوطن اليهودي الغاصب صاحب البيت الشرعي.
كنت أراجع تداعيات الأزمة والانقسامات التي يواجهها الأسرى في سجون الاحتلال، وانا في طريقي إلى مكتب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الدكتور صائب عريقات، لحضور لقاء، دعا إليه ممثلي الدول الأجنبية لدى فلسطين بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني. هاتفت، وأنا بمحاذاة مخيم الأمعري، أم «يوسف أبو حميد»، وهي التي سميتها قبل سنوات «وردة من الأمعري»، كي أطمئن عليها في هذه المناسبة.
كان صوتها كصوت الورد الناتئ في شقوق المخيمات، ينبض بالقوة ويشحنني بالثقة وبالحزم. شكرتني على الاتصال وشكرت قبلي ربها ورجته أن يبقى رحومًا. طمأنتني عن صحتها وذكّرتني بما قالته لي في زيارتي السابقة لبيتها : «المهم يا استاذ ألا تُظهر ضعفك، وألا تدع عينيك تدمع أمامهم؛ فنحن سنبقى أقوياء إذا تبسمنا في وجوههم، حتى وهم يهدمون بيوتنا ويقتلون أبناءنا؛ نحن سننتصر على جبروتهم بصمودنا وبتضحياتنا، لأنهم الضعفاء، فأصحاب الحق أقوى من الطغاة، وأولادي وكل ما أملك فداء للكرامة ولفلسطين». لم أجبها. صمتّ كمن عقل لسانه. خفت أن أدمع وخفت أن تخذلني حنجرتي، فهي أم «لعبد المنعم»، الذي سقط شهيدًا في عام 1994 ولستة أبناء أسرى: ناصر ونصر وشريف ومحمد ناصر؛ وجميعهم محكومون في محاكم عسكرية منذ سنوات بالسجن المؤبد لعدة مرات؛ و»إسلام» الذي اعتقل في مايو،أيار المنصرم ويواجه تهمة قتل جندي إسرائيلي حضر وكتيبته ليعتقلوا اخاهم السادس «جهاد» اعتقالا اداريًا، من بيتهم في الأمعري، الذي بات، بعد أن هدمه جيش الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول المنصرم، ركاما.
لم ينتظر سكوتي طويلًا إذ سمعتها تقول برقة الأم الحزينة «طبعًا أنا أبكي.. البسمة سلاحي أمامهم فقط، لكنني أم وأحب أولادي، وأموت شوقًا لرؤيتهم، وأتمنى أن أحتضنهم في كل لحظة… هذا قدرنا وهذه خياراتنا، فمن ينشد العيش بدون احتلال سيدفع نصف قلبه للأسى، ويربّي في نصفه الآخر الوعد بفرح مؤجل، لكنه آتٍ ذات يوم .»
دخلت قاعة الاجتماعات في مبنى منظمة التحرير. حضر عن الجانب الفلسطيني ممثلون عن معظم المؤسسات الرسمية والأهلية، التي تدافع عن الأسرى، وحضر كذلك معظم ممثلي الدول الاجنبية. تمنيت لو كانت «أم يوسف الأمعرية» حاضرة لتختصر بحكايتها كل زيف التاريخ وتخاطبهم «ببسمتها» وبنصف قلبها الدامي، عساهم يفهمون كيف سيزهر الحق في نيسان، وكيف سيغلب صوت الحرية أزيز الرصاص. لا أعرف إذا كانت علامات الدهشة ما زالت بادية على وجهي؛ لكنني وقفت أمامهم ورفعت رأسي، كما أوصتني تلك الأم الأمعرية، وأطلقت لساني في الفضاء فجاء وقع نداه على إيقاع ابريل وتنهيدة أم سرمدية. لم نسمع منهم اعتراضًا على ما قلناه، فقد أصغوا إلينا «بهدوء دبلوماسي» مزعج وواضح، ثم انسحبوا ببرود بروتوكولي مألوف. بعضهم يعرف مثلنا أن التاريخ سيتذكر «وردة الأمعري» ولن يسامح من داس على قلبها، وبعضهم سيتجاهل الحكمة في الربيع ليبقوا غارقين في عارهم وأسرى لمصالحهم ولموازين قوى دولية وهمية مدفوعة بقوانين المداهنة والرياء.
فهل سيكون القول ما قالت الأمعريّة؟
كاتب فلسطيني
آه ما العمل يا ارض الوجع قلوبنا تعتصر دما ما العمل في عصر الانبطاح و موت الضمير عدو شرس تمادى و انفلت يد الله فوق أيديهم