ثمة رواياتٌ عديدة تدور أحداثها حول وباءٍ جامحٍ يلف سكان مدينةٍ، ومن ثم تتناول ردة فعل شخوصها المتبايني الأفكار والطباع وطريقة تعاملهم مع ذلك الخطر الوجودي الداهم، ولعل أحد أشهر تلك الروايات وأقربها إلى ذهني، وأكثرها ارتباطاً بذكرياتي هي رواية «الطاعون» لألبير كامو، حيث يجتاح الطاعون مدينة وهران، فيسرد لنا الراوي ردات الفعل المختلفة، فهناك الطبيب الملحد العملي، الذي يرى واجبه رعاية المرضى بدون ادعاءاتٍ أو سفسطاتٍ، وفي المقابل القسيس الذي يرى في الجائحة عقاباً إلهياً لناسٍ قست قلوبهم فجفته، إلى جانب آخرين من مختلف دروب الحياة، بالطبع هناك رواياتٌ أخرى كـ»العمى» للمبدع سيراماغو.
الآن، خرجت تلك الرؤية السوداء القاتمة من صفحات الروايات، وكتب التاريخ، لتصبح لا واقعاً ثقيلاً ملحاً شديد الوطأة فحسب، وإنما يشمل الكرة الأرضية بأسرها، وإن تفاوت مدى وقوع البلاء بحساب عدد الضحايا بين بلدٍ وآخر؛ الكل مفروضٌ عليه العزلة، والناس من مختلف الأعمار يتساقطون مرضى، وترص الجثث في التوابيت التي فاضت، حتى استدعيت حافلات الجيش لنقلها ودفنها.
عزلةٌ وحصارٌ وموتٌ
ليس مبالغةً على الإطلاق القول بأن البشرية بأسرها تواجه مستقبلاً غامضاً، والأكيد أن شعوراً زائفاً بالأمان والثقة في المستقبل قد تشظى، وستسقط معه قناعاتٌ ومسلماتٌ شتى، رأينا أولها وطرفاً منها، فقد تعرى ضعف منظومات الصحة في بلدان العالم الأول جداً، كالولايات المتحدة وبريطانيا على سبيل المثال، كما اتضحت مقدرة قبضة الدول الصينية الحديدية في إدارة أزمةٍ كتلك، في زمنٍ تصاعدت فيه نبرة الريبة والنقد لنموذج الديمقراطية الغربية، الذي تمثله الدولتان الأوليان على اختلافيهما، كما ذكرت في مقالٍ سابق.
ثم نأتي إلى بلداننا فنجد عجباً… الحق أقول، إن متابعة ردة فعل نماذج متكررة من الجمهور في بلداننا، لم تصبني فقط بالدهشة، ولكن بالانزعاج الشديد، ففي حين نرى الغرب دولاً وجمهوراً يعزف لحناً جنائزياً كئيباً، نجد عندنا المسخرة بأزرى صورها.
وهمٌ كبيرٌ تصور أن بالإمكان إصلاح النظام في مصر، ويلحق به وهم مقدرة البورجوازية المصرية على قيادة الثورة، فقد فاتها ذلك القطار
إلا أنني أعترف أيضاً بأهمية ذلك؛ نحن نتحدث عن الثورة، نقرأ عنها وتحمسنا لها حين اندلعت وليس لنا حديثٌ إلا عنها، إلا أننا يتعين علينا أن لا نفقد الصلة بالواقع، بهؤلاء الذين من المفترض أن يقوموا بالثورة، بأفكار الناس ومزاجهم، فهي قد تدهشنا وليس لنا إلا أن نتعامل معها. لاحظت أن قلةً على وسائل التواصل الاجتماعي تتناول الوباء بنظرةٍ علمية، أي أنها تتابع النشرات والأسباب والأعداد والإحصائيات، وآخر الآراء البازغة في مواجهة ذلك البلاء المستجد. أما الغالبية العظمى فتتأرجح وتتوزع بين السخرية وعنجهيةٍ غريبةٍ وفارغة، تغذيها انطباعاتٌ وتصوراتٌ عن الذات، يعييك البحث عن مسوغٍ لها في أرض الواقع، ولكن هكذا هي الأوهام.
وفقاً للمعلن من الأرقام فإن حالات الإصابة، ومن ثم الوفيات في مصر، على سبيل المثال، ليست بالكثيرة، وبالتأكيد لم تصل للآلاف التي وصلتها في إيطاليا وأمريكا مثلا، بيد أنه ليس لدينا تفسير علمي لذلك حتى الآن؛ كل ما هنالك نظريات من عينة مناعةٍ اكتسبها الجمهور جراء تعرضهم لفيروساتٍ أضعف طيلة الوقت، وما أشبه. هي مجرد مصادفة قد لا تطول، إذ قد تلحق تلك البلدان بالغرب في موجةٍ مقبلةٍ من كورونا، باتت متوقعة، وقد نكتشف سبباً علمياً لاحقاً، بيد أن هذه المفارقة في أعداد الإصابات قد صعدت إلى دماغ الكثيرين، فصرنا أولاً نرى شماتةً غريبة في أعداد الوفيات في الغرب، ولست بحاجة للتدليل على وضاعة شعورٍ كذلك، إزاء الخسارة البشرية في أي مكانٍ في العالم، خاصةً حين يكون الضحايا مواطنين عزلا. وليت الأمر توقف عند ذلك الحد، بل تخطاه إلى تنظيراتٍ عن أداء دولنا وأنظمتها، وشكل العالم المقبل، فهم بدايةً يدعون أن قلة عدد الوفيات دليلٌ على منظومةٍ طبيةٍ أفضل من التي لأمريكا، التي يرونها ستسقط، أي نعم لن تتراجع فقط، بل ستسقط، بعد مرور هذا الوباء، لا لترثها الصين مثلاً، ولكن نحن، فقد دقت ساعتنا وراء تلك القيادة الحكيمة. وإن أكثر ما يضحك (وإن غيظاً في حقيقة الأمر) في أحلام اليقظة السخيفة هذه، مدى الجدية التي يتعاطى بها ذلك القطاع من الجمهور، وعبثاً تسأل عن مسوغاتٍ لتلك الفرضيات، بل واليقينيات فلن تجد.
بالطبع من حق أي شخصٍ أو جماعاتٍ أن يعتنق ما شاء من القناعات، ويؤمن بما يروقه من النبؤات عن الخلاص، أو النصر أو نهايات العالم، إلا أن ما يهمني شخصياً هو النفاذ عبر ذلك إلى الصورة الذهنية التي تعتمل وراء ذلك الكم من الترهات، وأحلام اليقظة، تلك التركيبة من الآمال والقناعات، التي تحتضنها قريباً إلى قلبها الطبقة الوسطى المصرية، البورجوازية المصرية، خاصةً الصغيرة والأكثر عدداً بطبيعة الحال، بالإضافة إلى تصورها عن ذاتها. وقد أكدت عدة قناعات لديّ، جلها مكتسبٌ عن طريق المعايشة والمراقبة الحثيثة، والباقي عن طريق قراءاتٍ لم ين الواقع وتتابع الأحداث يؤكدها، والخلاصة أن هذه الطبقة، رغم ما قد يبدو من تراكم التحصيل العلمي في صورة مؤهلاتٍ وشهاداتٍ، بما فيها العليا، حيل بينها وبين التبلور والتطور الحقيقي والنضج مراراً، كان آخرها وأهمها ربما يوليو 52 وزعامة ناصر الكاريزمية، طبقةٌ ضعيفةٌ لم تقد، وعوضاً عن ذلك تلقت الضربة تلو الأخرى، سياسياً واقتصادياً، لذا نراها تتأرجح بشكلٍ عنيفٍ بين اعتدادٍ فارغٍ وصلفٍ مستمدٍ من أوهامٍ غُذيت بها ونشأت عليها عن عظمة مصر التاريخية، ودورها القيادي والرائد في المنطقة، دولة محمد علي الحديثة ومشروعه، حتى نصل إلى المشروع الناصري وإسهاماته الحقيقية في تحرر القارة السمراء والمحيط العربي، وبالطبع يردفها حسٌ ديني قوي، تتأرجح بين ذلك الاعتداد وشعورٍ بالعدمية والضعة وتفاهة الشأن، كلما كبت وكلما منيت طموحاتها بهزيمة، فتسمع من كانوا يتيهون اعتداداً بأنفسهم، يعبّرون بيأسٍ عن كونهم «لا يصلحون لشيءٍ ولن يفلحوا أبداً»! هي طبقةٌ مهزومةٌ، مظلومةٌ ومهزومة، عاجزة.. وإن كانت الأعلى صوتاً في المجتمع، ولذلك فهي تنتظر الإنصاف الإلهي في صورة مخلصٍ أو كارثةٍ كونية، كطوفان نوح مثلاً، يستبدل الله به ظالميهم في الغرب المفتري الغاصب بهم، وهم في قلة جلدهم وقصر نفسهم، الناجمين عن إرهاقٍ تاريخيٍ طويل ليست لديهم النية لفعل شيء، بل سينتظرون الإنصاف الإلهي، ليوصل لهم مفتاح ريادة العالم عند عتبات بيوتهم، وقد لفتت انتباهي ردود الأفعال تلك، وما تكشف عنه من أفكار من تماهيها في حقيقة الأمر، مع فكرة «استاذية العالم» التي نادت بها جماعة الإخوان المسلمين كأعلى مرحلةٍ في سلم تدرجها نحو السيادة؛ والحقيقة أنه لولا التشابه في التربة الفكرية، لما لاقت مثل هذه الأفكار رواجاً في المجتمع، فهي تتملق مشاعر الهزيمة تلك وتعوض عنها. هي الهزيمة العميقة إذن، والتوق للكرامة والتحقق من طبقةٍ قمعت وديست وأُفقرت طويلاً، لكن بدون دفع الثمن.
اللطيف أن ردود الأفعال تلك تتصادف مع قراءتي للكتاب الرائد «دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي» لفوزي جرجس، حيث ارتأى أن سبب صعود محمد علي إلى السلطة، عوضاً عن السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، وأحد قادة الثورة والتحرر ضد الفرنسيين، كان ضعف الطبقة الوسطى، التي لم تخض صراعها ولم تتصد للمهمة التاريخية، بإسقاط إقطاعها، بل قامت قوةٌ خارجية، فرنسا في هذه الحالة، بالمهمه عوضاً عنها.. ولم تزل ضعيفة، وإن أعيد تعميد أجزاءٍ منها بتسميةٍ جديدة إبان الثورة: «حزب الكنبة». ربما لم نفهم (أو قطاعٌ منا على الأقل) واقعنا وشعبنا جيداً ولم نر طبقاته ونقيّم وضعها بدقة، فانتظر البعض فعلاً ثورياً من إصلاحيٍ مهزومٍ من الأساس، قبل أن تبدأ المعركة.
لم يصل السيسي إلى السلطة فوق دبابةٍ أو مدفع فقط، ولا معتمداً على ما اعُتبر انعدام كفاءةٍ من الإخوان فحسب، وإنما متملقاً ومدعوماً من هذه الطبقة التي رأت فيه المخلص المنتظر، الذي سيحل مشاكلهم وهم جلوسٌ على «الكنبة»، وقد تملق حسهم الوطني الجريح ذاك، لذا فلست أراني متجاوزاً إذ أؤكد أن هذه الطبقة هي التي مهدت الطريق لهزيمة الثورة ومجيء الحكم العسكري. وهمٌ كبيرٌ في رأيي تصور أن بالإمكان إصلاح هذا النظام في مصر، ويلحق به وهم مقدرة البورجوازية المصرية على قيادة الثورة، فقد فاتها ذلك القطار مراتٍ عديدة، يجوز أن التنظيم الجماهيري القادر على القيادة ليس بارزاً بعد، إلا أن ذلك لا ينفي إفلاس هذه الطبقة أو الحاجة إلى ذلك التنظيم.
يؤسفني أن أوكد لهم أن أمريكا والغرب ستتعافيان بغض النظر عن الخسائر وفداحتها بينما هم جالسون على كنبتهم، وأن ريادة العالم لن تقع في حجورهم (ولست في ذلك مشككاً في قدرة الله على استبدال البشر والشعوب) وأن الغرب لن يستورد السيسي، ليحل لهم أزماتهم، فليس لهم أن يخشوا سرقته أو فقدانه من جراء الحسد. ومن ناحيةٍ أخرى يسعدني أن تلك الأزمة بفداحة فقدانها وآلامها جديرةٌ بأن تحدو بالبشرية لطرح أسئلةٍ في العمق عن مستقبل الرأسمالية، التي تدمر الكوكب، وتستثمر في أسلحة الدمار الشامل عوضاً عن الطب والصحة ما سيصب في مصلحة الإنسانية.
*كاتب مصري