وجه أبي لهب ويداه

أبو لهب ذكر في القرآن في سورة المسد وتقول أخبار السيرة، إنه الأخ غير الشقيق لعبد الله والد الرسول عليه السلام، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، وكان يكنى بأبي عتبة. وتقول بعض الروايات إن أبا لهب كان لقبا لقبه به أبوه، لأنه كان وسيما مُشْرق الوجه. ومعلوم أن اسم أبي لهب ذكر في سورة المسد في قوله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب).
ونحن سنتوقف في هذا المقال قليلا عند مسائل لغوية تتعلق بما تثيره اللغة في علاقتها بالشخص التاريخي والرمزي، من جهة جسده وكيف يمكن للغة أن تختزن أفكارا تاريخية ورمزية منبعها الجسد.
(أبو لهب) وهو الاسم الذي اشتهر به عبد العزى بن عبد المطلب يصنف من الناحية الشكلية في باب الكُنى، وهو ضرب من الأعلام يبدأ بلفظ الأب أو الأم، ولكنه في الحقيقة لقبٌ وليس كنية إن نحن صدقنا أن عبد المطلب كان يريد من تسميته تلك أن يبرز فرط بهر وجه ابنه وتلهبَه، فهو لقب موجب لأنه يبرز حسنا وخلة. بهذا المعنى فإن عبارة (أبو) التي في هذا اللقب ليست هي نفسها التي في الكنية من نوع تكنية عبد العزى بأبي عتبة، فالأبوة ههنا علاقة نسبة فعلية شأنها شأن أم عتبة، أو أم جميل، وهما كنيتان لزوج أبي لهب. إن لفظ الأب في (أبو لهب) هي استعمال لا يقصد به الأبوة، بل يقصد بها الملك، وما زال هذا الاستعمال سائدا في لهجتنا التونسية، إذ نقول لعظيم الرأس (بو راس) ولعظيم الأنف (بو خشم) وغيرها من التسميات التي يكون فيها لفظ الأب مفيدا معنى نسبة الشخص إلى أعظم عضو (أو أصغره) فيه، تمييزا له وأحيانا إزراء به أو مديحا؛ فأبو لهب من هذا الجانب تعني (صاحب الوجه المتلهب). كثير من اللهجات الأخرى ما تزال تحتفظ في الأسماء بلفظ أبو من مثل (أبو سيف) و(أبو منجل) وهذا من باب نسبة الشخص إلى ما يملك، إما لإبراز ذلك الملك وإما للتأكيد على أنه يلازمه ويتبعه حيثما حل وارتحل.
(أبو) بمعنى (صاحب) ليست استعمالا غريبا عن أصل استعمالها في النسبة، ذلك أن لفظ النسب (أبو) حافظت على معنى النسبة، التي هي تخصيص عرقي، ولكنها استبدلت ذلك التخصيص العرقي بتخصيص الملازمة، أو المصاحبة. الملازمة في (أبو لهب) تكمن في أن الإشراق والتلهب شيئان ثابتان في وجه هذا الطفل الوسيم، وفي ذلك ضرب من التصور الاستعاري للجمال: إن في الوجه عناصر كثيرة من الشمس منها، الاستدارة والإشراق إلى حد التلهب؛ لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح وهو ثقافي: كيف يمكن أن يحتفى في ثقافة حرارتها لظى قاتل بمعنى التلهب حتى لكأنه معنى محبوب؟ يبدو أن العرب كانوا يختارون لذكورهم من الأسماء ما دل على معنى الشدة والقسوة نوع (صخر)، أو المرارة من نوع (حنظلة)، أو السام المؤذي من نوع (حنش)، ويبدو أن هذه الخشونة والمرارة والبأس هي المعاني التي تناسب الذكورة ثقافيا في عصرها، غير أن اللهب متى أخرج مخرجا جماليا بجعله دالا على معاني الحسن والبهاء والإشراق، فقَد معنى هذه الخشونة المطلوبة في الذكور، لذلك من الممكن أن يكون تأويل (أبي لهب) على هذا المعنى الجمالي قراءة محرفة، ويمكن أن تكون قراءة صحيحة لأن الشمس تحيل على النور المطلوب مثلما تحيل على النار والاحتراق.
للساني اليوم أن يسأل: هل اختصار المعاني في سمة من سمات الوجه، وتعيين صاحبها بها يدخل في ما يسميه العرفانيون بالجسدنة؟ أي بأن نعالج المعاني والتصورات بالتركيز على الجسد وأعضائه وحركاته وسكناته وغيرها؛ أو بعبارة أخرى أن تقدم الفكرة المجردة، اعتمادا على معطيات جسدية. في هذا السياق لم يكن الوجه باعتباره عنصرا من الجسد بعيدا عن المعنى الاستعاري، بمعنى أن الإشراق اقترض بما هو معنى ملازم للشمس لكي يعبر عن معنى الجمال والبهاء. فحين نقول عن وجه عتبة، إنه متلهب فنحن لم نصف جماله وصفا مباشرا، بل تفاعل الأب (الملقب له بهذا المعنى) على هذه التسمية باعتماد التأويل، فخلق بذلك حديثا غير صريح ولا مباشر عن جمال الوجه. ولو صدقنا الأمر فإن معنى التلهب هو معنى جمالي ذكوري يقابله معنى الإشراق ليكون معنى جماليا أنثويا، فكلما خبا النور ملنا بالوجه الجميل إلى الأنوثة وكلما تلهب النور ملنا به إلى الذكورة. الجمال يتبع سمات الجنس العامة المتراوحة بين مسترسل اللين والشدة. غير أن هذا المعنى سيجنح به شيئا فشيئا إلى التدين، فالتصوف، دون أن يفقده معناها الجمالي العادي.
لكن دعنا من جسدنتنا نحن بهذا المفهوم الذي قدمناه أعلاه، ولنعد إلى حكاية استعارة عبد المطلب لهيب الشمس لوجه عبد العزى في مبحث يسمى الإثنوغرافيا المجسدنة Embodied Ethnography فإن الجسد يتعامل معه هنا على أساس كونه أداة بحث فعلية، أي أن الجسد كما يقول Ribiero يصبح الواسطة التي من خلالها تعاش التجارب وتفهرس وتحلل. من هذا المنظار يمكن أن تطرح أسئلة من نوع: لمَا رأى عبد المطلب في وجه ابنه تلهبا للشمس؟ ومتى نشأ الشعور بأننا يمكن أن ندرك على صفحة الجسد تشابها للعناصر الطبيعية التي نراها بعيدا عنا؟ ولماذا نقل الإنسان عناصر الطبيعة وأفعالها ليراقبها على صعيد الجسد؟

لن نجيب على هذه الأسئلة التي تكمن وراء استعمال صفات للطبيعة للوجه البشري، بل سننقل الحديث من وجه أبي لهب إلى يده، ومن سياق التغني بالجمال إلى سياق اللعنة على الخطأ. في تفسير الطبري لسورة المسد وللآية التي فيها ذكر ليد أبي لهب، كثير من الأقوال المتشابهة هذا قول منها يزعم أن « التب: الخسران قال: قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أُعطَى يا محمد أن آمنت بك؟ قال؟ كمَا يُعْطَى المُسْلِمُون»، فقال: ما لي عليهم فضل؟ قال: وأي شَيْءٍ تَبْتَغِي؟ قال: تبا لهذا من دين تبا، أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنـزل الله، «تَبتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ». ومن الروايات ما يرد معنى تب اليد إلى القطع وليس قطع اليد، بل انقطاع عملها. وفي هذا السياق يصبح لليد بعد رمزي آخر غير ما كان للوجه، لا نعني انتقالا من الاستملاح إلى الاستقباح، بل نعني انتقالا في العلاقة من المشابهة التي تقتضيها الاستعارية وهي علاقة إيقونية، إلى علاقة التلويح والكناية، وهي علاقة رمزية اعتباطية إذ باتت اليد تحيل إلى الأفعال التي تنجزها وقطعها يعني قطع تلك الأعمال. ويبدو أن كل عضو في الجسد يتطلب الوجه البياني الذي يناسبه فالوجه الذي إن نحن رأيناه، انعكس في وجداننا انطباع بالملاحة أو بنقيضه يميل أكثر إلى الاستعارية والمشابهة، بينما تظل اليد أميل في استعمالها إلى الرمز، أي إلى علاقة لها بما تعمله، شرا أو خيرا، وهذه علاقة في أصلها رمزية لا مشابهة فيها بين الشيء وما يحيل عليه. لليد استعمالات رمزية كثيرة يمكن أن توظف في سياق الحديث السالب عن أبي لهب: ومنها معنى القطع الذي ذكرناه ومعنى كف النعمة عنه، لأن اليد تعطى النعمة فتتناولها، وإلى هذا المعنى يمكن أن تتجه الأنظار لأن ما يتبعه من الآية المرتبطة بالغنى والكسب يمكن أن تكون حجة لنا في ذلك.
إن تجربة الجسد من خلال اليد هي في هذا السياق تجربة عقابية، تلحق الأذى بكل الجسد من خلال عضو من أعضائه مثلما لحق البهاء بكل الجسد من خلال بهائه وجماله. يبقى الجسد إذن خزانا للمعاني التي تُسبغ نَعْمَاؤُها على الجسد كله أو تصب جَامَاتِ غضبها على الجسد كله، ويظل العقل مستفيدا من شتى أنواع التجارب التي يخوضها المرء مع جسده: فهو عاقد شرعي للعلاقة بين الجسد وما يوحي به أن مشابهة وحكاية وإن رمزا واعتباطا.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية