وداعا أيها المنتظَر!

لأنه حمل مأساة الملايين منا، حمل مآسي آلاف الأطفال، آلافِ الأطفال على مساحات الألم العربي أجمع، لأنه لخص في لحظة ما لم نحسِن قوله في سنين، لأنه قال في صمته من داخل الجب ما لم تقله ألسنةٌ شتى، لأن اللحظة كانت في حاجة ماسة إليه، لينطق بلسانها، لأن قوة الكون العظيمة أمدته بسرها ليحبه الملايين، لأن الله، أهدانا في البؤس إنسانيتنا مرة أخرى، لكي يجد الملايين في بسمته، وفي مأزقه أنفسهم.
هذا المسيح الطفل كان يمثل مأزق هذه البشرية هنا والآن، لأن ضعف صبي ذي خمس سنين داخل بئر غميقة هو الضعف عينه، لأن من غياباتها تجلى وظهر على الأكوان، لأن مِن ذُرى النسيان في قرية لم يسمع بها أحد، صرخ الحدث ليراه العالم، صرخ بنفسه وبتلك الخطوات الصغيرة الأخيرة له في الحياة فوق الأرض، التي أدت به إلى القعر والقمة والظلام والنور والخاتمة، تلك الخطوات الأخيرة كانت كلها خطواتنا، لأن الأمهات رأوا فيه أنفسهن أمهات، وكن كلهن أمه، لأن الآباء، لأن الأبناء، لأن الجميع فاجأ نفسَه إنسانا معه، لأن ريان كان مرآة الجميع، وهكذا حدث.

ريان كُتب له أن يذكّرنا ويرحل، ابن العالم هذا وابن الجميع، ولأن الكثيرين منا في البئر العميقة

لا نعرف بالضبط مِن أين تأتي الصرخة العظمى وممن! هلك آلاف الجوعى، آلاف المشردين، آلاف المقصوفين، المدمَّرين، الغرقى، وما زال الركب يحدوه النسيان، وما حرك أحد ما حركه ريان، أنتَ جئت بالصرخة، من صقع منسي في زاوية مغيبة لبِثتَ في بئرها خمسة أيام، وودعتَ بعد أن درجتَ خمس سنين، أحبك الملايين واغتنى من مأساتك المئات، دأبُنا في الزمن، فعلُنا في ما نحن عليه في عظمتنا وانحطاطنا، وعندما نُطيح بأنفسنا من دون عودة، حالُ الدنيا، حال ريان، أظهرَ أحسنَ ما لدى البشر، وأسوأ ما لدى البشر، لأنها حال البشر، لأنه اجتمعت في حاله النبوءة والأسطورة والخِذلان والسحر والعاطفة، حالُ البشر، ولأن الطاقات الهائلة للكون اجتمعت عبر الملايين الذين مالوا بالفؤاد نحوه، نحو قرى على سفح جبل تبدو فيه مرمية كلطخات منسية في الشمال الافريقي، في ريف من أرياف منزوية عالية، من دون أن تراها العين، ولأن ريان كان هناك، وكان طعامَنا ومأوانا وجاد لنا بأنفاسه من مغرب أقصى. عمرٌ من أعمارنا المبتلاة والبطولةُ فيها في كل تفصيل، اتّبعَته الميديا فدفع بها إلى الحد الأخير في كل شيء، ثم كشَف عوارها، كشف أكثر من أي لحظةٍ ديمقراطيتها وشعبويتها وضرورتها والحتمَ الذي فيها اليوم، رحل ريّان، بقي ريان، هذا السلاح والنصر والهزيمة من بعده، دون أن يرى ذلك، نظفنا جميعا، وفهمْنا ذلك، بقي منه شيء خالد، شيء خالد في خط محمد الدرة نفسه عندما كانت الصورة المكارة هناك، عندما تربصت ونطقت ثم نطقت عنا، ثم نطقت بعد ذلك من البئر بعد سنين، وكانت ماكرة، انسربَت لكي تُرى، ونحن نرى فلا نرى، ونحن نراه في النزع نظن أن حركات رأسه الوسنانة كانت لكي يأكل أو يشرب بينما هو في النزع. رحمك الله ريان، رحمك في ملائكة الرحمة من الأطفال المقتّلين في هذا العالم، الجفاف والبؤس وقتل الأطفال، هل على هذا نمضي.. قال ريان، لكن البشرية هي البشرية، لها لحظات من العظمة وعصور من الانحطاط الكامل، والويل عندما تتجمد على لحظة التبلد والبلاهة، أيها البشر قال ريان.. إن خلودنا جميعا هو خلود في هشاشتنا وفي عمائنا الدائم أبدا، روى المراسل التلفزيوني كيف أن كلبا ردوه عن قبره ولم ينجحوا، أصرّ كلبٌ بعد الدفن أن يقعد عند قبره، أللحراسة أم لراحةٍ أحسها، أم لسرٍّ آخر، أقدَمُ رفاق الإنسان في الكائنات هذا وليس بغريب، أمرٌ مّا فوق المعتاد غيرُ مفسَّر في هذه الظاهرة، شيء مّا نحتاجه، ونحتاج إلى أن يبقى هكذا غير مفسر، لأنه ذاك الذي نحسه جميعا، ويربطنا، ويجعلنا، وليس بغريب، لأنه الذي نحسه جميعا ونراه في أعماقنا نرى حقيقته في مثل هذه اللحظات النادرة ونغبط أنفسنا لأننا في المأساة عشناه، ونحن هو، وهو فينا، وما بنا حاجة إلى كلام اللسان لنفسره لأنفسنا، لا نبغي تفسيره، لأنه في لغةِ أننا بشر.. لأن حالة طفل العالم هذا، حالة أهله، حالة القرى، حالة الواقع الحادث كيف حدث، كيف حدث استغلاله، كيف حدث التسامي به، على الرغم من الجميع، لأن المأساة والتعاطف والتماهي والمآل، ولأنه مآله، حين صار مآلنا، ولأن ما كشفه كبير وهو ما أراد كشفه، ولأن كل شيء كان ينطق بقوة وثبات، وفوق قوانا وما نستطيع، وما يكون لنا أن نستوعبه، في الفكر وفي النظر ولأن ريان عبث بكل فكر فينا وكل نظر، عبث بكل تعاظمنا وتعالمنا وزيفنا، ولأن البشر هم البشر، ولأن الطفل هو الإنسان، ولأن الغرابة هي نحن، لأننا كلنا فعلا ريان، ولأن أطفال الفقراء في بلداننا تحت ظلم عميم، أطفال حاشدون في أريافنا، ولأن أريافنا بلا ماء، ولكن مع كثير الحفر، لأننا نقرأ أكثر بكثير مما نفهم، لأن آدميتنا صارت إلى بلادة معولمة، لأن السخف، غصنُه غطى على كل شيء جاء ريان، من وسط السخف الجديد انبعث، من قوة السيبرانية الجديدة وضعفها، وانبعث قبس من نور من داخل جبٍّ احتضن الأسطورة، لأن الأسطورة سَمْتُ الحقيقة ووجهها، غريب على الدوام أمرنا لذلك أهدانا طفلٌ هدايا الكون ثم رحل، طفل، طفل لا غير، طفل لأن هذا العالم الأخير قهر الأطفال، لأن هذا العالم المتشدق الأخير طحن الأطفال، احتجنا إلى هذه الصفعة في لغة البراءة القصوى لتذكرنا، لأن الذكرى تنفع الناس جميعا. لا يمكنني أن أدعك تمضي، لا يمكنني، قبستُ منك نورا، لا أحد يترك النور يفلت من عينيه إذا قبَسَه، طبيعتنا هكذا ولا يمكن، لأني رأيتك، وفهمتُ ما قلتَه لي، ولقد سمعتك، وتلك الصيحة التي أنت قائلها، والبشرية كانت كلها مع نفسها لأيام معك، عجبا.. جعلْتنا نعيش هذا السحر البشري المدهش، تقول لي زوجتي: لا أستطيع أن أنام الليلة وأنساه، قالت من بين ملايين قائلات أخريات، تقول لي: كلما حضنتُ بنيتي أراني أحضن ريّان وتبكي، قالت الأمهات وسمعناهن، وقال الآباء وقال الأطفال عجبا، لأن المعجزة الحقة ماثلة كل لحظة أمامنا وفينا ونحن النسيان نفسه، ونحتاج إلى من يذكرنا بها، ريان كُتب له أن يذكّرنا ويرحل، ابن العالم هذا وابن الجميع، ولأن الكثيرين منا في البئر العميقة.
أكاديمي من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رشيدة:

    وصف عميق ورائع وصورة مقربة عن واقعنا المر …..

إشترك في قائمتنا البريدية