لم تصلني عبر البريد رسالة من سنوات، أعني تلك الرسالة الورقية التي يرسلها عبر البريد شخص ما ليسأل أو ليعلم أو ليجامل. لكن تصلني يوميا عبر الإيميل أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي رسائل كثيرة ومتنوعة تكتب بحروف إلكترونية. هذه الظاهرة التي تبدو لكثير من الناس حدثا عاديا، هي في الحقيقة موضوع ذو مشارب لسانية متعددة، منها ما يتعلق بتطور الدلالة المعجمية للألفاظ، ومنها ما يتصل بحياة جنس من الكتابة، والحقيقة أننا سنولي هذا الحدث العادي عنايتنا في هذا المقال، رافعين أيادي التوديع لرسائلنا القديمة.
للرسالة معنيان إذن، معنى قديم يحيل على استعمال قديم، ومعنى حديث شائع. صحيح أن المعنى الثاني هو الأكثر تداولا، لأنه الأكثر استعمالا بين الناس غير أننا لا نستطيع أن نقول إنه حلّ محل الأول؛ قد يحدث ذلك في وقت لاحق حين تغيب الأوراق وتجلس الأقلام في حافظاتها الرفيعة وتحال وظيفة ساعي البريد على المعاش. نحن نعيش اليوم ما يسمى بالاشتراك Polysemy وهو أن يكون للكلمة أكثر من معنى. في تاريخ العبارة «رسالة» معان ضاربة في القدم، أرفعها تلك التي حملها على مرّ الأزمان أقوام وصلوا الناس بالغيب، وبتلكم الرسالة سموا رسلا. هذا معنى ودعناه بوداع زمان الرسالات السماوية.. ودعناه سلوكا وما ودعناه دلالة.. ونحن نقف على ميناء الوداع ، لنودع معنى قريبا منا هو معنى رسائل الأدب والوجدان.
يقول الكاتب الكندي جان ماري بوبار «إن حُبا دون رسالة هو حب لا يمكن أن يكون». كانت الرسائل الوثيقة الرسمية لحدث كبير في حياة العاشقين هو «إعلان الحب» هو أن تكتب إليها، أو تكتب إليك كلمات بسيطة من نوع (أحبك، هل تعلم؟) أو كلمات مختلفة، رغم أنها معادة من نوع (لا يخفق القلب إلا لك) أو كلمات حالمة من نوع ما غناه شارل أزنافور (أريد أن أعيش معك، أريد أن يكون لنا الإمبراطورية نفسها أو المآسي نفسها ، نريد أن نتبادل البسمات.. أن يختلط بكاؤنا.. أريد أن أعيش معك) هذه الكلمات تكتب بإتقان في أوراق بسيطة أو رفيعة، وترسل على خفر وتقرأ في ملكوت السحرة والنفاثين في عقد العشق.
أرفع رسالة الحب كانت تكتب بخط جميل، وبأسلوب بديع وترش عليها عطور المرسلين، كانت تحاط بقداسة من يريد أن يقدم قربانا. صحيح أنه لا يكتبها إلا المتعلمون، ولكنها لم تكن حكرا عليهم، فيمكن أن تكتب رسائل حب باسم غير المتعلمين أو غير المتمكنين في التعبير عن الحب. الإعلان عن الحب بالرسائل حدث مهم يتطلب تجويقا Orchestration أو تنظيما للأسلوب، وتنظيما للأفكار المعبرة عن المشاعر الشارحة والساردة والداعية إلى التجمع الزوجي تحت راية القلب الموحد، وليست بالضرورة تحت قبة الزواج. ما يصنع هذا العالم من التصريح بالحب في الرسالة الأولى ويوطن الحب في بقية الرسائل هو خصوصية المكتوب. هناك شيء في رسائل العشق المكتوبة قديما يصنعه المكان، أو الفضاء وآخر يصنعه الزمان. إن سألت الفضاء عن أي معنى بديع ينسج بهاءه لقال لك: هو الغياب. الحضور في المكان يبليه والغياب يحييه. الغياب في رسالة العشق مقامٌ جليل؛ هو مقام يعظم الغائب ويعطيه مهابة وجلالا ويحله محلات قد تكون ليست له في الأصل. الغياب يؤدي إلى الاستحضار وهناك فرق بين هيبة الحضور في الخطاب الشفوي، وهيبة الاستحضار في الخطاب المكتوب. هيبة الحضور تكمن في علاقة مغلفة في العادة بالسلطة؛ لكن الغياب يخفف من سطوة الحضور، ويسمح للذات الكاتبة أن تسبح بحرية من غير رقيب جثمان حاضر بين يديك يعد أنفاسك عليك. من هنا كان للحبيب الغائب عند كتابة الرسالة خيالات بديعة كلما حاولت الحروف رسمها افتكها الغياب وأعادها إلى منافي الحنين.
توجد رسائل جامعة يختلط فيها الأدبي بالعاطفي، والشخصي بالموضوعي؛ هي رسائل يمكن أن نجد فيها مقاطع ينعكس فيها الخطاب على مرآة ذاته، كما انعكست صورة نارسيسوس Narcissus لما اجتمع قلبه بعينيه على صفحة الماء. هي رسائل كتبها أدباء وأديبات بأسلوب راق وبمضامين جمعت بين رفعة العاطفة وفرادة الرؤية وانسيابية الكلام. ونحن نقدم لك في هذا السياق نموذجين الأول قطعة من رسالة جبران خليل جبران إلى مي زيادة، والثانية جزء من رسالة بعث بها الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير إلى لويز كولاي.
في هذا العصر ماتت تلكم الطرق القديمة، وبتنا نكتب رسائلنا بحروف إلكترونية وليس بيننا وبين من يقرأ تلكم الرسائل غير شاشة كليلة في ليل بهيم لا قمر فيه.
في رسالته إلى مي يقول جبران: «ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها، فهي كنهر من الرحيق يتدفق من العالي، ويسير مترنما في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة أورفيوس (شاعر وموسيقي تحدثت عنه أساطير اليونان سحر بأنغامه وحش الغاب وآلهة الجحيم). تقرب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارةَ إلى شُعلة متقدة والأغصانَ اليابسة إلى أجنحة مضطربة. إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل، فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل ؟ ذلك يوم انتحى فيه عن سبل الزمن لصرفه متجولا في إرم ذات العماد». في هذه الرسالة ثلاثة عناصر مهمة أولها ورَلغوية الخطاب ونعني به أن اللغة تصف نفسها، إذ انصرف الشاعر إلى وصف الرسالة من جهة أسلوبها وتلقيه لها ووظيفتها؛ وثانيها العنصر الرمزي، وفيه تصبح الرسالة الموصوفة دالا لمدلول رمزي يحيل على صاحبتها: يصف الرسالة ويعني المرأة: شهوة واتقادا وعطرا وعذوبة صوت؛ والعنصر الثالث انقلاب الزمان إلى مكان: إن زمن تلقي الرسالة يصبح بمثابة قمة الجبل؛ قمة الزمان أن يصبح في الذرى هناك يطلق الزمان الأبعاد ويصبح القارئ مسافرا في التاريخ. أجمل ما في هذه العناصر الثلاثة أنها مداخل بعضها إلى بعض، أتاحتها في الأصل بوابة البوابات وهي اللغة الواصفة للرسالة، التي سمحت بالغطاء الرمزي الكثيف. في التواصل اليومي يمكن أن يعلق بعضنا على كلام بعض، لكن ذلك يكون في سياق الكلام كنقطة في بحر، والرسالة جعلت النقطة منبعا للبحر.
المثال الثاني هو رسالة الأديب الفرنسي الشاب فلوبير إلى صديقته الأديبة لويز كولاي، أهم ما في هذه الرسالة أنها طرحت رأيا في الإبداع كان بمثابة الاستشارة من أديب لما يكتبْ بعدُ نصه إلى أديبة خبيرة بالكتابة وبالحياة يقول: «أَوَد أن أَكْتُبَ كُل شَيْءٍ أَرَاهُ، لَيْسَ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلكنْ أن أكتبه فِي حُلةٍ جَدِيدَةٍ. ذلك أن الرِوَايَةَ الدقِيقَةَ للحَدَثِ الوَاقِعِي الأجل يَبْدُو لِي أمْرا مُسْتَحِيلاً؛ إذ عَلي أن أُنْفُخَ في تفاصِيلِه أكثرَ. إن الأَشْيَاءَ التي شَعُرْتُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا تُعْرَضُ عَلَي وَكَأنَهَا قَدْ بَدلَتْ مَوَاضِعَ حُدُوثها إلى بُلْدَانٍ أُخْرَى، وَشَعُرَ بِهَا أَشْخَاصٌ آخَرُونَ. وَهَكَذَا أُغَيرُ المَنازلَ وَالثيابَ وَالسمَاءَ وغَيرَها». خريطة طريق الإبداع هذه التي وضعها فلوبير لنفسه، ستفسر لاحقا أسلوبه في الكتابة. عشق الأديب هو غير عشق الإنسان العادي، إذ تتداخل في عشقه حب المرأة وحب الكتابة وحب الفن، وتُخلع تحت قلمه وهو يكتب أستار كثيرة تكون المرأة فيها ناظمة لعناصر كثيرة منها السرد البديع.
كانت الرسالة أول أشكال الكلام الموجه من الله إلى البشر، فالأديان التي وصلتنا هي على حد عبارة Julen Green رسالة شخصية وجهها الرب إلى كل واحد منا فردا فردا.. وتعلمنا من هذا أن يكتب بعضنا لبعض رسائل ونرسلها عن طريق رسول… في هذا العصر ماتت تلكم الطرق القديمة، وبتنا نكتب رسائلنا بحروف إلكترونية وليس بيننا وبين من يقرأ تلكم الرسائل غير شاشة كليلة في ليل بهيم لا قمر فيه.. بل إن رسائله تصلنا بمجرد كتابتها: أحبك .. وأنا أيضا: أحبك..
ما أسرع الرد وما أبرد الانتظار.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
عفوا أستاذ توفيق الرسائل الإلكترونية ليست باردة إلى هذا الحد فبإمكانك أن تُقدّر قيمة ما أُرسِل إليك , أيضا هناك الرسائل الصوتية وهي أيضا جميلة ولطيفة , أن يُفكر فيك أحدهم ليُعلمك بأمر أو يطلب منك خدمة أو يُهديك شيئ لطيف فهذا يُبرز مكانتك عنده, المهم هذا المقال سيكون سببا بإذن غلله في إنتقاء الكتاب القادم الذي سأطالعه بعد إنهاء الحالي وهو كتاب يحوي مجموعة رسائل تبادلها الكاتب حسونة المصباحي مع بعض من أصدقائه فشكرا.
خلال سنيّ الطفولة و المراهقة كانت هواية المراسلة و جمع الطوابع رائجة . كنت تقرأ أسماء و عناوين و أعمار هواة المراسلة من أقطار العالم العربي على صفحات مخصصة لهم في مجلات الأطفال و اليافعين. بدأ أخي بمراسلة شاب يافع من بغداد و بدأت أنا بمراسلة مراهق صغير كان يماثلني في العمر من بورسعيد. إستمر تبادل الرسائل بيننا و بينهما لمدة شهور قليلة فقط أنهاها الاحتلال الصهيوني لمدينتنا في حرب 1967. لا زلت أذكر اسميهما.