كان لطلاب الجامعات في ستينيات القرن العشرين دور سياسي فعال ومهم، هو بمثابة ردة فعل جماهيرية غاضبة على الإخفاقات والنكبات والويلات التي خلفتها الحرب الباردة. وهذا ما جعل دورهم كبيرا وخطيرا في تغيير (عقارب) السياسة العالمية وتسييرها حسب ما أشَّر وعيهم وما تمنته أنفسهم وما رسمته تطلعاتهم. فطلاب جامعة هوارد بالولايات المتحدة الأمريكية – وأغلبهم من أصول أفريقية – قاموا عام 1968 بالسيطرة على مبنى الجامعة، وطلبوا نبذ التمييز العنصري ضدهم. ومن بعدهم قام طلاب جامعة كولومبيا بالاحتجاج على الحرب في فيتنام، واستطاعوا أن يجبروا الجامعة على سحب استثماراتها من مراكز أبحاث تصنيع الأسلحة الحربية.
وسرعان ما انتشر نطاق الاحتجاجات الطلابية الأمريكية إلى بلدان الغرب الأخرى، ومنها فرنسا التي شهدت اعتصامات طلابية عارمة في ايار/مايو 1968 وبسببها توقفت حركة كل شيء، ما أثار الهلع في نفوس السياسيين وتيقنوا أن ذلك سيتسبب في نشوب حرب أهلية أو قيام ثورة وطنية فتوقفت الحكومة عن العمل وترك ديغول فرنسا وسافر إلى ألمانيا على الرغم من رمزيته كمحرر فرنسا من النازية الهتلرية.
ولم يبخل دهاقنة الفكر السياسي على تلك الاحتجاجات والاعتصامات بأن أطلقوا عليها مصطلح «ثورة الطلاب» بينما ضنوا بهذا المصطلح على حركات مهمة في بلدان أخرى. ولقد تمكنت الثورة الطلابية من إجبار الحكومة الفرنسية على تغيير الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية. وبسبب شدة أحداث 1968 الطلابية، فإن تأثيرها ما يزال قائما إلى اليوم بوصفه تحولا مفصليا عارما على مستوى الغرب الإمبريالي ومستوى بلدان العالم أجمع (من الجدير بالإشارة أنه قبل أقل من عام وتحديدا في حزيران/يونيو 1967 ترك طلاب المرحلة الاعدادية في العراق قاعات امتحان البكالوريا، وخرجوا في مظاهرات صاخبة احتجاجا على عدوان الخامس من حزيران وسياسة الاستسلام للأنظمة العربية القائمة آنذاك علما بأن هذا الامتحان يعد مفصليا في حياة الطلاب لأنه يؤهلهم للانتقال إلى الدراسة الجامعية).
بيد أن هذا الوضع النهضوي الجامعي تغير مع العقدين الثمانيني والتسعيني، فلم يعد لطلاب الجامعات دورهم الطليعي في التغيير والتأثير، والسبب دوائر الإعلام الغربي الخفية المرتبطة بالقوى الحاكمة بوسائلها المغرية حينا ووسائطها الناعمة والخشنة في أحايين أخرى والتي جعلت الأفراد والمجتمعات مبرمجة على وفق مخططاتها. ولقد شخَّص إدوارد سعيد هذا الوضع ورسم صورة للطالب الجامعي في الغرب قائلا: «إن الطلاب في حرم الجامعات الذين كانوا سابقا طليعة التغيير السياسي في البلاد، يميلون إلى السلبية وعقولهم مركزة على دراسات تؤدي إلى مستقبل مهني، وآراؤهم منسجمة تماما مع الوضع القائم ويخضع المزيد والمزيد من الحياة الثقافية الأمريكية لسيطرة وسائل الإعلام ونظريات بافلوف السلوكية التي يستخدمها أصحاب وكالات الإعلان في جادة ماديسون بهدف التحكم في أذواق المستهلك وتصرفاته». (من كتابه «القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي» ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص21).
إن أسف إدوارد سعيد على الوضع السلبي الذي شهده طلاب الجامعات الغربية في ثمانينيات القرن الماضي سيستمر أيضا في القرن الحالي بعقديه المنصرمين، لكن الحرب العدوانية البربرية على أهلنا في غزة والأساليب الإجرامية التي يتبعها الصهاينة في إبادة الفلسطينيين وصمود هؤلاء الأسطوري الذي سيظل مثالا عظيما لكل الشعوب المكافحة لاحتلال أوطانها، كانت هي الحدث الجلل الذي أيقظ المارد الطلابي من سباته أو تخديره، ونفض عنه ركام عقود من السلبية ليعيد إلى نفسه هيبته ويؤكد أن وعي طلاب الجامعات أكبر من سفسطات الساسة المدلسين والإعلام المضلل ومن أية مخططات وتدبيرات، وأن بإمكانهم اليوم أن يكونوا كسابقيهم طلاب الستينيات لهم وعيهم العالي بالمسؤولية والشعور الإنساني بالبشرية جمعاء وبروح متحدية ترفض الظلم وتناهض الاضطهاد، فهبوا هبة واحدة طلابا وهيئات تدريسية وموظفين في مختلف الجامعات الأمريكية وجامعات أوروبا واستراليا والمكسيك وأفريقيا وغيرها.
ولكن يبقى لاحتجاجات الطلاب في أمريكا وقعها الخاص ليس لأنها تأتي من قلب الإمبريالية العالمية ومركز اللوبي الصهيوني حسب، بل لأنها أيضا تعيد مجد الستينيات إلى الواجهة. فكان أن بدأت الاعتصامات الطلابية منذ بداية هذا العام واستمرت المسيرات والتظاهرات بلا انقطاع، وأخذ ضرامها يزداد أوجا كل يوم حتى إذا وصلنا إلى مرحلة التخرج وجدنا مدرجات الجامعات تتحول إلى سوح ثورية لتأييد فلسطين والتنديد بالعدوان الصهيوني والاستمرار في المطالبة بالمزيد من سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية وإلغاء أية روابط مالية وأكاديمية معها. وتنوعت أشكال الاحتجاج في أثناء منح الشهادات، فتارة يرفع الطلاب علم فلسطين وتارة ثانية يرتدون الكوفية الفلسطينية، ويدبكون الدبكة الفلسطينية وتارة ثالثة يهتفون ويرفعون لافتات كتب عليها تحيا فلسطين وغزة حرة ويحيا نضال الشعب الفلسطيني ولا للإبادة الجماعية.
وإذا كانت الاحتجاجات الطلابية خلال الفصلين الدراسيين قد جوبهت بحملات قمع واعتقال ومحاكمة من لدن أصحاب القرار والقائمين على الجامعات، فإن هؤلاء أُرغموا صاغرين خلال منح شهادات التخرج على الرضوخ للأمر الواقع، فوقفوا ساكنين وهم يرون الطلاب والهيئات التدريسية يهتفون لفلسطين وينددون بالصهيونية. وفي ذلك مؤشر مهم على مدى نجاح طلاب الجامعات الأمريكية في تأكيد طليعيتهم وأنهم قادرون على صنع وعي عالمي حول فلسطين، يتردد صداه داخل الشارع الأمريكي كله.
وما يجري اليوم في أكثر من مئة جامعة أمريكية في مقدمتها نيويورك وكولومبيا ومينيسوتا وبنسلفانيا وكاليفورنيا، يجري أيضا في جامعات أوروبا، فطلاب أكسفورد وكامبردج مستمرون في إقامة سرادق الاحتجاج ونصب خيام الاعتصام، منتفضين انتفاضة جماعية بصوت إنساني موحد. ومثلهم طلاب السوربون الذين نظموا أنفسهم ومعهم اتحاد الطلاب اليهود الذين رفضوا التواطؤ في الإبادة الجماعية لغزة المثال، وأعلنوا موقفا موحدا وساهموا مع الجميع في التعبئة الطلابية بقصد توسيع نطاق المطالبات الداعية لوقف إطلاق النار وبالفعل تمكنوا من السيطرة على مبنى الجامعة وخيموا في الممرات والأجنحة المختلفة التابعة لها. وعلى الرغم من أن السلطات واجهتهم بالاعتقال بتهمة العنف وفرضت عليهم الغرامات وتم إجلاء بعض الطلاب بشكل قسري من الجامعة وحرم بعضهم الآخر من أداء الامتحانات، فإن الاحتجاجات استمرت والهتافات علت أكثر وأكثر، ليكون لذلك كله وقعه المهم الذي يعيد إلى الأذهان أحداث ثورة أيار/مايو 1968 الطلابية.
إن صمود أهل غزة رجالا ونساء، أطفالا وشيوخا فرض على العالم الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في أرضه وجعله رمزا للتحرر والسلام. ولم تعد فلسطين بحاجة إلى منظمات كارتونية تدافع عن حقوقها لأن العالم كله اليوم يدافع عنها. فالقضية الفلسطينية شرارة قدحت لهيب الشباب الجامعي الواعي وجعلته يقول إنا ها هنا، قادرون على تغيير السياسات الداخلية والخارجية الظالمة، ولسنا مجرد كائنات مبرمجة استهلاكية لا إحساس لها ولا ضمير. فليفخر شعبنا الفلسطيني بأنه كان سببا رئيسا في صعود الوعي الجامعي في العالم وكثمرة من ثمرات تأكيد وجود هذا الشعب ودليل على انتصار قضيته بوجه الاستعمار الصهيوني.
*كاتبة من العراق