مثلما يحدثُ حين يصمتُ جميعُ من في الصالة، والحكّامُ الذين يديرون ظهورهم للمغني الذي لا يعرفونَه بخاصة، في انتظار أن تُصدرَ حنجرتُه، في مسابقات مواهب الأغنية، بعد الموسيقى أو خلالَها أو قبلَها، ثم يحدُث ضجيجُ دهشة الجمهور مع الصّوت، وتوقُّفُ عيونِ الحكّام للحظاتٍ، ثم ضغطُهم على أزرار كراسيهم لاستدارة معرفة المغنّي، دفعةً واحدةً، مع التصفيق الذي يتحوّل صمتاً في ضجيج الإعجاب؛ هكذا يحدث في الفاتحات المدهشة للروايات، منذ أولِ كلمةٍ وأوّلِ جملةٍ وأوّل مقطعٍ، لتأسرَ لبّ القارئ وتدفَعه قسراً أن يستمرّ.
وهكذا يحدث في فاتحة رواية السورية عبير داغر إسبر «ورثة الصمت»، فتستدير لها كراسي انفتاح عقل وقلب قارئها للنظر والفهم وإشراع أجنحة الحواس، حيث:
«انتحرت نانا لتعلن للكون أن لها الكلمة الأخيرة، وأن الموتَ كالحياة حدثٌ تافهٌ أيضاً. عن جسرٍ مرتفِعٍ، دون كلمةِ وداعٍ هَوَتْ كطلقةٍ في صدر الماء. تخلَّصت من ثقل جسدها في مدينةٍ منفيّةٍ بعيدة، وصلتْ إليها كما يصل البشر إلى كل المنافي، منهَكين ومفلسين».
غير أن ما لا يعرفه الجمهور هنا، ويدركه مع متابعة القراءة والتساؤل عن أبعاد هذا الانتحار، أن فاتحة التشويق الناجحة هذه سوف تستمرّ مع تساؤل الخوفِ الخفي الخافت، عن الما بعد، وعمّا إذا كان الإدهاش سيستمرّ على نفس الوتيرة فيخلق الملل، أم سيتصاعد إلى إدهاشات تُولِّد المتعة بعد المتعة وتأسرُ القارئ/ شهريارَ بانتظار حلول مساء سردِ الحكايات مع استمرار تحدّيات القراءة. وما لا يعرفه الجمهور هنا، كذلك، هو ما يتعلّق بمدى معاناة المغنّي/ السارد لتحدّي توليد الإدهاش وقيادته، مع استمرار الكتابة، رغم تفشّي الثقة المتولّدة عن كلمة البدء الفاتحة للخلق، في مفاصل الكاتب والقارئ على السواء.
وما لا يعرفه القارئ هنا، في النهاية، هو أن تحقّقَ تصاعد المتعة لن يكون إلا بشرط إلغائه هو نفسه خلال عمليّة الخلق، وإلا أنْ تُنسى مراقبتُه وأحكامُه المسبقة وانطباعُه، وأنْ يتوحّد المبدع بذاته متفادياً فخاخ تصفيقه السطحيّ المعتاد.
وكما يبدو في الكثير الكثير الذي أخرج «ورثة الصمت» من رحم التصاهر إلى النور، بالتغاضي عن بعض الأحكام التي لم تُغلَق ثغراتُها بحكمة، هو أن إسبر التي أسرتْ روايتُها القارئ بالشعر، بدءاً من فاتحتها، واستمرّت متداخلةً به في كل تفصيل على اتساع مداها؛ قادتْ بقدرةٍ لافتةٍ تحدّي جرأةَ تكوين الرواية بلغة الشعر، وسط ما يُعرَف وما يَحدُث على الأغلب للروايات من فشلٍ إن دخلتْ هذا الأتون الحارق الحافل بالمحاذير. لكن أسباب إسبر وراء ذلك التكوين تبدأ من اختيار بطل سارد شاعر، بالإضافة إلى كونه مهندساً، وتعميق شخصيته المتداخلة في كونه موهوباً ومركباً ومتضاداً بالزواج والعشق خارج الزواج، وبالجبن والجرأة، والحكمة والحماقة والحلم والأوهام؛ كما كل الرجال تقريباً، هكذا وفق ذلك.
وقد أوجدت إسبر بهذا الاختيار وصقْله، ما يبرّر إلى حد كبير لغةَ الرواية الرفيعة العميقة الحافلة بالمجازات والمماثَلات والتداخلات بالمعرفة والثقافة والآداب، بما يشمل الأساطير والأديان والفلسفات والشعر والمسرح الإغريقي والشكسبيري والحداثة التي تشمل الموجات الجديدة بمختلف الفنون، في معالجتها لموضوع الوطن/ المنفى، الحسّاس الذي يتطلّب الإلمام بالتحليل النفسي كذلك. وهذا من جهة تعلّقه بصدمات التكوّن والانتزاع التي تفتح أبواب الانتحارات، في عالمٍ خاصٍّ جميلٍ وتاريخي إلى ما لا حدود، مثل سوريا، وتغلي بداخله المعقّد في ذات الوقت، وتتناهشه صراعات الأديان والطوائف والمذاهب والقوميات إلى درجة تفجيره في النهاية، بثورةٍ جابهها نظامُ التمييزٍ الطائفي الاستبدادي، وإن لم تذكر الرواية ذلك ولمّحت إليه تلميحاً.
صدمات الوطن/ المنفى
من بدئها بلحظة التفجّر/ موت السيدة نانا بالانتحار في منفاها بمونتريال في كندا، بعد هجرتها إثر حصار حمص أيّام الثورة السورية، وجرّ هذه اللحظة إلى تفجّرات أكبر، إذ تفتح بهذا عالم التعقيد المولّد للتفجرات، في حدث محاولة انتحار ابنة أخيها جانو كذلك… تمسك عبير داغر إسبر بخيوط روايتها داخل مغزل الشعر، وتمدّ نسيج الحدث الصغير إلى ثوب عائلة نانا السورية المسيحية من وادي النصارى، بتحديد بؤرة هذه العائلة، الأخ والأب سامي قدسي، المهاجر الذي دفعته أخته نانا للهرب من خدمة العلم كي لا يتورط في صراع الثمانينات الذي حدث بين النظام والمعارضة، وتختزله الرواية بصراعه مع الإخوان المسلمين، حيث «دخلت البلاد في ثمانينيّاتها، وصراع الإخوان المسلمين على السلطة بدا واضحاً وفجّاً، معلَناَ دون مواربة». وتُوسّع إسبر أبعاد وألوان النسيج أكثر لتداخلَ هذه العائلة بالعائلات السورية والأوروبية المختلفة بالأعراق والأديان، كي تكشف عمق التعقيد الذي تولّد خفاءً في الجسد السوري، وأصبح صعباً تفكيكه حتى بدماء الثورات.
والكاتبة تفرد أبعاد روايتها، وملاحقاتها ومراكباتها الجمل الوصفية العميقة للأمكنة وتفاصيل تداخلها مع البشر المتفاعلين معها، وامتداد مصائرهم في التاريخ والحاضر، بمعاناة الانغلاق والتمرّد عليه، انتصاراً وخذلاناً وهزائم، كما فتحت روايات أمريكا اللاتينية الشهيرة من مثل خالدة ماركيز «مائة عام من العزلة» ورائعة إيزابيل أليندي «بيت الأرواح»، إضافةً إلى ابتكارها السيناريو الذي يستطيع التحكم بهذا الامتداد، مع منظومة السرد واللغة التي تحافظ على التشويق. ومن خلال ذلك كله وسواه، تسير إسبر طامحةً في طريق صنع روايتها الخاصة عن العائلة البشرية التي تعاني انهيارات البشر، وقياماتهم من الرماد.
وفي هذا الصنع تلتقط الروائية واقع بلدها السوري نفسه وشخصيات عائلاته، في اللحظة القاسية التي انفتح فيها المنفى للسوريين أعماقاً فاغرة الأفواه لالتهامهم، بحاراً ودروب لجوء وأوطاناً جديدة رخوةً تحت أقدامهم. وفي تعقّد المأساة تعود إسبر إلى جذور تكوّن المآسي، في الديانات بشكل خاص، وانغلاقها على نفسها إلى درجة توليد المآسي بين الأخ والأخ، والابن والأم والأب والابن.
علاج الصدمات بالحكايات:
في فجيعة الأخ والأب سامي قدسي بانتحار أخته نانا، ومن ثم ابنته التي نجت بصدفة عودة حبيبها إلى البيت حيث نسي محفظته، ونال عقابه على إنقاذها بطرده من حياتها، كما يليق بسلوك جميع نساء عائلة قدسي الملتاثات بغراباتهن في عشق الموت، كما يدرك سامي ذلك فيهنّ؛ تُوجِّه إسبر بطلها المفجوع بأخته وابنته ونساء عائلته وجميع النساء اللواتي تزوجهن وعشقهن، إلى ما يميّز روايتها بالفرادة. فهي تبتكر سيناريو محاولته إنقاذ ابنته من عزلتها الانتحارية، بتحويله إلى شهرزادٍ ذكرٍ تروي بلسانه الحكايات التي يظن أنها تساعد في إنقاذها، مستعيناً في ذلك بتجاربه وثقافته الواسعة، التي تبثها إسبر تداخلاتٍ ناجحةً عميقةً في الرواية، لا تبدأ من سوفوكليس وهوميروس ولا تنتهي عند محمود درويش وأراغون وجاك بريل.
وفي هذه الحكايات يكشف سامي، بتعرية لا توارب، مخازي ذكوريته وخفاياه كرجل خائن لزوجته الكندية ستيفاني بعشيقتين، وعن هجرته وحبّه لأمّها البريتانية أناييس، التي توفيت إثر ولادتها تاركةً له عبئاً لم يرده ولم ترد به سوى إرضاءَ أمومتها، لكنه تحمّله في منافي الهجرة من نيس إلى كندا، في الفقر وفقدان العمل والكفاح من أجل لقمة تربيتها. ويحكي لابنته عن وطنها الضائع في لوثات وعصبيات وهويّات إثنيات قاتلة، وعن عائلتها ونسائها الغريبات وبالأخص عمّتها نانا، التي علّمته معاني وقيم خاله مطانيوس القومي السوري العلماني الذي كافح من أجل سوريا الكبرى الحرة من تعصب الأديان، واستشهد من أجل فلسطين سوريا في حرب النكبة عام 1948. عمتها نانا حملتْ قيم أخيها وتزوّجت من المسلم الحمصي عمر المنلا حسن، مضحّيةً بطرد عائلتها لها، ونقمة محيطها المسيحي عليها، وأيدت للثورة السورية التي قامت بداياتها على النشيد لسوريا حرّة واحدة لجميع مواطنيها، وعن وعن، حيث:
«وكما كلّ شهرزاد روائية، لم أرد أن أنقذ نفسي وحدها، أردت إنقاذ ابنتي، ربطها بي، بمصير أفراد عائلتها الملعونين بالحب، بخيط الوراثة المعقود من طرفه إلى طرفه، بأدعيةٍ وأغاني رحيلٍ، وأهازيج وداعٍ. أردت أن أنزع العبث عن حكايتنا فلا يكون الانتحار هو إجابتها، أردت ان أدلها على المعنى حتى لو اضطررت لأن أخترعه اختراعاً، وكما كل ثائر، كما كل ناقمٍ ومحطِّمٍ للنسق، قررتُ أن أحكي عن أمكنة تعلو فيها الشمس فتشعل الحرائقَ في القلب وفي الدور وعلى أسطح المرايا، قرّرت أن يلسعني وهج الحقائق دون أن أخاف».
بيت الصدمات والعلاجات:
من أجل لمّ حكايات سامي/ شهرزاد، ومتابعة القارئ لها بتشويقٍ لا يفقد فيه خيط لَضْمِها، ويصل لاهثاً إلى نبع جواب أسئلة انتحار نانا المحيِّر؛ تضع إسبر روايتها في بنيةٍ بسيطة تقارب أسلوبها الشعري، فتلجأ إلى مفصلتها في اقتباسات تأخذ مكان عناوين الفصول، من الأساطير والشعراء والمسرحيين والحكماء والأمثال الشعبية والأغاني التراثية ومن كل ما يتداخل بنجاح مع محتوى الفصل، بعددِ 21 فصلاً يختمها الاقتباس الذي تعبّر به «أنتيغون» سوفوكليس عن معرفتها أنها ستموت مبكراً، في تداخل مع انتحار نانا التي عرفت ذلك كذلك.
وتتضمّن هذه الفصول 43 عنواناً يختم أخيرُها الرواية بما يماثل الليلة الأخيرة من حكايات شهرزاد، وتتكشّف فيه أسباب انتحار نانا، بتساؤل سامي:
«هل قَتَلَت الكلماتُ أختي؟ لم يكن لنانا أن تموتَ من كلمةٍ يقولها ضحيّة. كلام الضحايا لا يقتل. ما قَتَلَها حقيقةً أنها لم تستطع أن تُنجي ابنها حسن من طائفيته، لم تستطع أن تُقنعه بقيمة الحبّ الذي عاشته مع أبيه عمر، ما قتلها أنها لم تستطع أن تريه الفرح وتمنحه خيارات كالتي حصلت عليها مرَّةً. هل تعرّف حسن على حمص؟ هل عدّ حجارتها المخبّأة لتختمر في جرار الزمن على مهل؟ هل تفيأ بجدران بيوتات تصلح لتكون جوامع وكنائس؟».
وكذلك
«ما قتل نانا أنها لم تكن أماً جديرةً بالأمومة وإلا لكانت احتضنت ابنها ولم تتركه ليصبح ما أصبح: شاباً خجلاً من سيرة أمه وأبيه».
كما يتكشف، في هذه الليلة الأخيرة، أسلوب انفتاح الرواية على شتى الاحتمالات التي ستتولد في نفس القارئ إن كانت حكايات سامي التي تضمّنت أحلامه وأوهامه، ونظرات شفقة ابنته عليه، سوف تنجيها من عزلتها، أو إن كانت قد دفعتها للتخلّي عن هذا الإرث الدافع والمولّد للصمت أمام ضجيج وصخب الحياة التي تفتحها لها سنواتها العشرون في كندا، أو إن كانت تخلّت عن كل هذه الحياة، في ختام سامي عن مروره عليها كي يسافرا إلى حمص، حيث: «سأمرُّ عليك يا حبيبتي لننهي الحكاية معاً، أنا شهرزادك وقصّتنا أطول من ألف ليلة. سأمرّ ببيتك وسأطرق على بابك لأحمل جسدك الضئيل مع باقي الحقائب، سأطرق وأطرق لأيام ولليالٍ./ ولن تفتحي».
عبير داغر إسبر: «ورثة الصمت»
نوفل، هاشيت أنطوان، بيروت 2024
272 صفحة.