الناصرة- “القدس العربي”:
يشهد العالم اليوم تحولاً سياسياً حقيقياً في مواقف السعودية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي. بالنسبة للفلسطينيين، السعودية واحدة من الدول العربية الإسلامية الرائدة، التي ساندت العرب والفلسطينيين، وشاركت في حروبهم، ووظّفت أحياناً مقدراتها لدعم قضاياهم، كما فعلت بحظر النفط في فترة الملك فيصل، خلال حرب رمضان، قبل 50 عاماً. كذلك، سبق أن اشترطت السعودية مقابل أي تطبيع مع إسرائيل إنهاء احتلال الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية سيادية ومستقلة، في مبادرتها التي صارت مبادرة عربية في قمة بيروت عام 2002.
ومن قراءة ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية، وفهم ما وراء الكلمات، يبدو أن المداولات السرية تتجه نحو صفقة ثلاثية، في صلبها التطبيع مقابل تنازل إسرائيل عن معارضتها لفرن ذرّي مدني سعودي. ومع ذلك تتنبه جهات إسرائيلية معارضة لخطورة ذلك، من ناحية القبول بفرن نووي سعودي يدفع دولاً أخرى في المنطقة لمثل هذا المنشأة النووية، ومن ناحية إبقاء القضية الفلسطينية دون حل، ما يعني التورّط بواقع ثنائي القومية، في ظل وجود ملايين الفلسطينيين بين البحر والنهر هم باقون هنا، رغم كل اتفاقات التطبيع.
بن سلمان: “علينا التخفيف عن الفلسطينيين، وعندها ستصبح إسرائيل لاعباً مركزياً في المنطقة، ونحن مستعدون للعمل والتعاون مع نتنياهو، ومع كل رئيس حكومة إسرائيلي”.
تجلى ذلك في مقابلته باللغة الإنكليزية لشبكة “فوكس نيوز”، بصوته وصورته، وفي ردود الفعل الإسرائيلية التي تبارك وتهلل وتكبّر للسلام الذي يلوح بين إسرائيل، التي كانت “الكيان الصهيوني” ذات يوم، والسعودية. تعكس هذه المقابلة إعلانا واضحا بالتقدم نحو التطبيع، دون التزام حقيقي واضح بتسوية القضية الفلسطينية، حيث قال فيها إنه في “كل يوم نقترب لاتفاق مع إسرائيل، وهناك مفاوضات جارية جيدة بيننا وبين إسرائيل”.
كما قال محمد بن سلمان، في هذه المقابلة، إن مثل هذا الاتفاق مع إسرائيل سيكون الأكبر منذ الحرب الباردة. وعندما سئل ماذا عن التقارير حول تجميد هذه المداولات السرية مع إسرائيل، قال بشكل قاطع: “لا لا.. هذا غير صحيح”.
وبشأن القضية الفلسطينية قال إنها مهمة، و”علينا التخفيف عن الفلسطينيين، وعندها ستصبح إسرائيل لاعباً مركزياً في المنطقة، ونحن مستعدون للعمل والتعاون مع نتنياهو، ومع كل رئيس حكومة إسرائيلي”.
بن سلمان، وبخلاف مواقف تقليدية تاريخية للسعودية، وبعكس المبادرة السعودية- العربية لم يشترط التطبيع بدولة فلسطينية سيادية، مكتفياً بقول إنه “دون تقدم في المسار الفلسطيني من الصعب جدا التقدم في التطبيع”.
وحول النووي الإيراني، قال بن سلمان إنه بحال حازت إيران على سلاح نووي، فنحن أيضاً ملزمون بذلك”. وتعكس هذه التصريحات اهتمام السعودية بمصالحها بالأساس، المعلنة وغير المعلنة، والمتمثلة بالفرن الذرّي لأغراض مدنية، سلاح أمريكي متطور، وضمانات إستراتيجية أمريكية للسعودية.
هذه المقابلة، التي سبقت لقاء بايدن– نتنياهو في نيويورك، فرضت نفسها على الأجندة الإعلامية– السياسية الإسرائيلية، التي ركزت، حتى ليلة أمس، على الاحتجاجات والمظاهرات ضد نتنياهو وحكومته في البلاد وفي الولايات المتحدة، وذلك بسبب إقدام بن سلمان على تصريحات وديّة نحو إسرائيل، صبّت الماء على طاحونة نتنياهو، الذي سيلوّح بهذه التصريحات وبالتطبيع مع السعودية في خطابه في الأمم المتحدة، غداً الجمعة، حيث سيتحدث بالإنكليزية، لكنه سيهتم بالأساس بآذان الإسرائيليين، طامعاً بتسجيل نقاط له ولحزبه، في ظل تدني شعبيته نتيجة تورطه بـ “إصلاحات قضائية” خلافية زعزعت الشارع الإسرائيلي، وقسمته لمعسكرين متصارعين. وحاز نتنياهو على جائزة ترضية وتشجيع من قبل الرئيس الأمريكي بايدن كي يتقّدم في مسار التطبيع مع السعودية وفي مسار الحل المأمول مع الفلسطينيين، وقد شدّد بايدن على ذلك في الأيام الأخيرة، خلال لقائه مع نتنياهو، وفي خطاباته وتصريحاته، تزامناً مع أعمال الأمم المتحدة.
وكيف سيترجم هذا التقارب الأمريكي الإسرائيلي السعودي من التطبيع على أرض الواقع، وهل تتوّج “اتفاقات أبراهام” بانضمام السعودية، التي سبقتْها الإمارات والبحرين في دخول دائرة التطبيع وبمباركتها؟ للوهلة الأولى يبدو أن نتنياهو راغب جداً بهذا التطبيع مع السعودية، الذي طالما اعتبره أعظم المنجزات الممكن تحقيقها، لكنه غير قادر، بسبب تركيبة حكومته المتشددّة. ويتساءل كثيرون هل يمكن لحكومة احتلال كهذه أن تخطو خطوات حقيقية نحو الفلسطينيين سبق أن وصفها الرئيس بايدن نفسه بـ “الأكثر تطرّفاً”، وهي التي ترفض مجرد الحديث مع الرئيس عباس، وفيها وزراء يدعون لحرق حوارة، ويعتبرون حارق عائلة دوابشة “قديساً معذّباً”، وتغضبهم عملية تسليم ثماني سيارات جيب للسلطة الفلسطينية؟
وهذه أسئلة مستحقة في ظل تصريحات وردود فعل وزراء ونواب إسرائيليين، حيث دعت، أمس، مجموعة من نواب حزب نتنياهو “الليكود”، في عريضة، لعدم تقديم أي “تنازلات” للفلسطينيين، فيما يواصل الوزيران باتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير التهديد بتفكيك الحكومة بحال قدمت أي “تنازل للإرهاب”.
ومع ذلك فإنه من غير المستبعد أن تتحول تصريحات بن سلمان لواقع على الأرض، وفي فترة حكومة الاحتلال الحالية، وهناك جهات إسرائيلية، كوزير الخارجية إيلي كوهن، تتحدث عن اتفاق مع الرياض، قبيل ربيع 2024. ويستند هذا الاحتمال لـ “تنازل” إسرائيل عن معارضتها لبناء فرن نووي مدني سعودي، مقابل تنازل السعودية عن التزامها بقضية الفلسطينيين الوطنية عملياً وعن شرط الدولة الفلسطينية السيادية وعن مبادرتها من 2002. وهذا ما تفيد به صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، التي تقول، اليوم الخميس، إن هناك جاهزية لدى نتنياهو للموافقة على فرن نووي سعودي، وإنه أمر المؤسسة الأمنية بالاستعداد لذلك، مقابل الفوز بالسلام مع حامية الحرمين، زعيمة العالم الإسلامي، وهو اتفاق تاريخي، كما وصفه نتنياهو نفسه في تصريحاته الأخيرة في نيويورك. وهذا يعني أن نتنياهو سيراهن على قدرته بإقناع شركائه المتشددين بكونها صفقة مربحة، لأنها تعني تطبيعاً مع العرب والمسلمين على مبدأ سلام مقابل سلام، وأن “التنازلات” للفلسطينيين محتملة وليست جوهرية، ولا تغير واقع الحال، وأن هذا إنجاز تاريخي سيودع في رصيد الحكومة ووزرائها ويمنحها فرصة للتغّلب على المعارضة الداخلية الواسعة نتيجة “الإصلاحات القضائية”.
وهذا ما ألمح له وزير الزراعة، رئيس المخابرات الإسرائيلية “الشاباك” السابق، آفي ديختر، الذي أشاد بتصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ووصفها بالشجاعة والبناءة.
في حديث للإذاعة العبرية العامة، صباح اليوم الخميس، قال ديختر إن محمد بن سلمان صبّ الماء البارد على التقارير والتصريحات الإسرائيلية، في مطلع الأسبوع الحالي، حول “تجميد السعودية” للمداولات السرية مع إسرائيل، واتهم المعارضة برئاسة يائير لبيد ووسائل إعلام عبرية بالتشويه والكذب. وتابع: “ها محمد بن سلمان يؤكد بشكل قاطع أن المفاوضات جيدة، نافياً تجميدها”.
وحول جاهزية حكومة نتنياهو السادسة لتقديم “تنازلات” للفلسطينيين، استجابة للمطلب الأمريكي والسعودي، قال الوزير الإسرائيلي آفي ديختر:”هذه التصريحات هي مجرّد ضريبة شفوية يدفعها محمد بن سلمان للفلسطينيين والعرب والمسلمين في العالم، وهي تتحدث عن تخفيف معاناة الفلسطينيين ليس أكثر. القضية الفلسطينية لن تعيق التقدم في مسار التطبيع مع السعودية، ولذا ستطالب ببعض الخطوات الإيجابية نحو الفلسطينيين، وأعتقد أننا نستطيع التعايش معها لأن مثل هذه الخطوات لن تغيّر الواقع الموجود من الناحية الجوهرية”.
من جهته، أكد وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهن، في حديث لإذاعة الجيش العبرية أن تصريحات بن سلمان تاريخية، وأن إسرائيل موجودة في أقرب نقطة ممكنة من التطبيع مع السعودية، لافتاً إلى أن ذلك ثمرة اعتبارات ومصالح أمريكية وسعودية وإسرائيلية.
وتابع: “سعدنا لسماع بن سلمان يتحدث بلغة واقعية، ومصلحة إسرائيل كبيرة لأن السعودية ستفتح الباب أمام دول عربية وإسلامية لتدخل التطبيع. لن نسمح لأي دولة في المنطقة باقنتاء سلاح نووي، وهناك إمكانية للتوصل لتفاهمات تجسر الهوة بيننا وبين السعودية، بين السلام وبين الأمن من خلال قيود ورقابة وغيره. بالنسبة للفلسطينيين والموقف المتشدد لدى أحزاب في الائتلاف الحاكم علينا أن نرى مصالح إسرائيل العليا. هذا ليس حاجزاً أمام السلام مع السعودية.هناك مداولات داخلية وعلينا التريث والانتظار، وفي الربع الأول من العام القادم ستكتمل الصورة، ونستكمل اتفاقات أبراهام”. وحمل كوهن على السلطة الفلسطينية، وكرّر التهمة الإسرائيلية لها بأنها تدعم “الإرهاب” وترعى “التحريض”.
في المقابل تحذّر رئيسة حزب “العمل” ميراف ميخائيلي من ميول نتنياهو للموافقة على المطلب السعودي، وقالت، في تصريحات إعلامية، اليوم، إنها وزملاءها يؤيّدون تطبيعاً مع السعودية، لكنهم قلقون من إمكانية قبول إسرائيل ببناء فرن نووي سعودي. وعلّلت ذلك بالقول إن هذا سيفتح الباب أمام سباق تسلح نووي، وهذا يعني تنازل إسرائيل عن مصلحة عليا”. وهذا ما أكده أيضاً نائب رئيس الموساد، النائب رام بن براك، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست سابقاً (حزب “هناك مستقبل”) في حديث للإذاعة العبرية: “لا أعرف التفاصيل، لكن منح السعودية، أو أي دولة في المنطقة، فرصة لتخصيب اليورانيوم يجعلها على عتبة أو حافة دولة نووية بسرعة أمر خطير في الشرق الأوسط، الذي زعزعته أحداث كبيرة في العقدين الأخيرين”. لكن بن براك رحّبَ بالتطبيع مع السعودية، وقال: “مبدئياً ينبغي فعل كل شيء كي لا تبني السعودية فرناً نووياً، رغم أهمية التطبيع مع السعودية، رغم أن التطبيع معها حدثٌ جلل، ونحن كمعارضة سنساند نتنياهو بذلك بشكل جارف. القول الفصل في الموضوع الذري في السعودية ينبغي أن يكون للمؤسسة الأمنية، لا للمستوى السياسي فحسب، وأخشى أن نتنياهو يتجه للتنازل للسعودية في الموضوع الفرن النووي مقابل تنازلها هي عن التزامها بالقضية الفلسطينية. نحن نؤّيد التطبيع مع السعودية، فهذا أقصى أمانينا كإسرائيليين، ومع ذلك، ربما يكون الأفضل أن نقول لواشنطن: نحن نفضّل بقاء السعودية بدون تطبيع، وبدون فرن ذرّي مدني“.
على المستوى الفلسطيني عكسَ رام براك موقف اليسار الصهيوني بقوله إن هذه ليست “تنازلات” للفلسطينيين، لأن “تسوية الصراع مع الشعب الفلسطيني مصلحة إسرائيلية، وبدون ذلك سيتصاعد “الإرهاب” الفلسطيني. كنا متعجرفين عام 1973، ونحن اليوم أيضاً متعجرفون واستعلائيون”.
في كل الأحوال، نتنياهو سيبذل الكثير من المساعي للتوصل لمثل هذا التطبيع مع السعودية، بما في ذلك إقناع شركائه في الائتلاف المتطرف، وربما يتجه بدون موافقتهم لذلك، مع الوعي المسبق أن حكومته ستسقط ليذهب لانتخابات عامة جديدة حاملاً الاتفاق المقترح للتطبيع مع السعودية، خاصة أن مثل هذا الاتفاق يدخله التاريخ، وهو مولع ومسكون بهاجس تخليده في السجلات الإسرائيلية، مثلما سيمنحه فرصة للتفوّق على المعارضة الداخلية التي ضربت شعبيته.
واعتبر السفير الإسرائيلي في واشنطن مايك هرتسوغ، الذي شارك في لقاء نتنياهو بايدن، أن التطبيع مع السعودية أهم من التطبيع مع الإمارات والبحرين، كونه عامل استقرار لكل المنطقة، وأنه يحتاج للمزيد من المساعي، لافتاً لوجود رغبة حقيقية لدى الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية.
ورداً على سؤال، تابع: “هناك حاجة للخوض بالمزيد من التفاصيل في مداولات سرية، في الشهور القريبة، لكننا نتجه ونتقدم بوضوح نحو اتفاق مع السعودية. وبشأن الفرن، والقول إن السعودية قلقة من المشروع النووي الإيراني، وإن هذا ما يدفعها نحو المطالبة بفرن ذري مدني، فإن هذا موضوع للتفاوض، وموقفنا معروف، وموقف واشنطن معروف، ولا توجد جهة مستعدة بالمساس بأمنها القومي”.