عادة ما يكون التفكير، الخاضع لمنطق الحجة والبرهان، مبنيا على عقد أواصر تجسر بين الماضي والحاضر. وعلى هذا الأساس، تكون سبل البحث عن أسباب النجاح أو الإخفاق، أمرا ملحا وفي غاية الأهمية أيضا، بل، تصبح سموت التفكير الحقيقي والجاد في الأسباب والمسببات هاجسا مرضيا، خصوصا إذا كانت الحجج والبراهين مقنعة، وخاضعة لمنطق علمي يقبله العقل والمنطق.
إن المقارنة بين ما عشناه بالأمس وما نعيشه اليوم، على مستوى البيداغوجي التربوي والديداكتيكي، في مدارسنا العمومية، نجد فرقا شاسعا على مستوى النتائج والأهداف، التي يطمح إليها المجتمع، علاوة عن الحنين إلى الماضي، رغم مساوئه وتجاوزاته وتعثراته. فحقل التربية هو المجال الأنسب لصناعة أجيال الغد، فكل خلل في البناء والتركيب، تكون عواقبه وخيمة على مآل صناعة الإنسان بعامة.
بالموازاة مع ذلك، فالاهتمام بالتربية هو اهتمام بالمستقبل ككل، الذي يحدد مصائر البلاد والعباد؛ لذلك يعتبر منعطفا خطيرا لرصد مدى قابلية وجاهزية السير نحو النهل الغزير من منابع الحضارة والتطور ومواكبة العصرنة، التي تخترق البناء العالمي اليوم. كما أن خنق المبادرات داخل المؤسسات التعليمية بمجموعة من المذكرات جهوية وإقليمية، مثبط حقيقي يجعل من المؤسسة التعليمية، بكل أطرها، في حَيْص بَيْص.
٭ ٭ ٭
سياق هذا التقديم، البسيط، جاء عن طريق استقدام، نهاية السبعينيات من القرن الماضي، عهدي الأول بالمدرسة. كان الفقيه الديني، خصوصا في السنوات الأولى من الابتدائي، عندما لا تتوفر النيابة التعليمية على الأطر الكافية لتغطية الطلب المتزايد على التعليم العصري، هو من يتولى تربية الناشئة داخل المدرسة الحكومية. فحسرتنا كانت كبيرة، ونحن نرمق فقيهنا داخل الحجرة لا يغادر البتة مقعده إلا لماما، بيْد أن المعلم، في حجرات أخرى، يمر كالطيف بين الصفوف؛ ليراقب عن كثب عمل المتعلمين. فعلى الرغم من هذا النقص الحاصل في الأطر التربوية، إلا أن ثمة إجماعا على أن بناء المستقبل لا يتم إلا عبر توفير العدد الكافي من الأطر التربوية. فنشاط الفقيه في المدرسة العصرية، في زيه التقليدي، الجلباب والعمامة، مركز على تلقيننا مبادئ العقيدة والعبادات، أما دروس المواد العصرية؛ رياضيات وعلوم أخرى، فتبقى مؤجلة للسنوات المقبلة.
هذه الفجوة المعرفية تزداد اتساعا، لتتحول إلى تدمير ذاتي أتى على الأخضر واليابس، خصوصا عندما يحصل التلاميذ الآخرون على كتب مجانية، تكون زاهية بتخطيطات لحياة برية، متمثلة في سلاسلها الغذائية المعروفة، ناهيك من رسومات وصور لحيوانات مفترسة، ولفكوكها الضخمة وطواقم أسنانها المتعددة الأشكال والأحجام، وهي معزولة في إطاراتها البهية، يزينها المتعلمون بالتلوين والقص، لتنتهي بها الرحلة، وهي معلقة على مجلتهم الحائطية. عبر تلك النوافذ البلاستيكية الضخمة للفصل، كنا نطل على عالم بهي ومترام، وكنت أحس أنه ليلٌ لا صبح له، أو بحرٌ لا ساحل له. لتقتحمني دون استئذان صورة الفقيه، في جلبابه الصوفي، وهو يستفيض في شرح مكون العبادات، من خلال صعود وهبوط يديه الضخمتين.
٭ ٭ ٭
ما زلت أتذكر الموسيقى، التي كان يعزفها «بيكي» لحنا طروبا داخل الفصل بقيثارته الحمراء الأرجوانية، وكانت أظافره الطويلة تنتقل برشاقة بين أوتارها الرنانة؛ فصار شبيها بعازف الليل.
ما ترسخ في ذهني، وأصبح موشوما في الذاكرة وإلى الأبد، معلم الفصل الثاني، الملقب «بيكي». ظاهرة تحمل هواجس الماضي والحاضر، المدموغة بأيديولوجية غزت العالم نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. البوهيمية أو «الهبيزم» تيار فكري اجتاح أمريكا وأوروبا ليصل إلى العالم العربي، فتأثر به العديد من الشبان من المحيط إلى الخليج. فكان المعلم «بيكي» من بين أولئك الذين تأثروا إلى درجة الهيام والخبل بهذه الموجة، التي انتشرت كالنار في الهشيم. كنا نحس به غريبا، من خلال مظهره وشعره وطريقة لباسه، فباتت أظافره العَجْراء الطويلة تخيفنا كثيرا، خصوصا عندما يمر بين الصفوف من أجل مراقبة منجزاتنا المنزلية. شعره اللولبي والهدلولي يسيح في الفوضى إلى حدود كتفيه المهزوزين، بينما ملابسه دائما تكون بألوان الطبيعة، وفي لون قوس قزح. أما شكل السراويل، التي يعشقها والمتيم بها، فهي من نمط واحد؛ مفتوحة بعُرى واسعة من الأسفل، وتضيق كلما انتصف جسده الهازل. بكل هذه الحمولة الفكرية والأيديولوجية الثقيلة كان يغزو وينتشر في أذهاننا الصغيرة كالموج الإشعاعي، وبهذه الصورة البوهيمية كان يدرسنا اللغة العربية، ويتفنن في إلقائها، منتقلا بين مكوناتها برشاقة الأيول. فلا الإدارة التربوية قادرة على أن تناقشه في قناعاته ومواقفه، ولا الجمعيات باستطاعتها أن تغير من مساره الأيديولوجي، الذي حفره بإزميله في الصخرة الصلداء؛ فكان «بيكي» أرخبيلا عائما، متروكا على سجيته وغنجه ودلاله.
ما زلت أتذكر الموسيقى، التي كان يعزفها «بيكي» لحنا طروبا داخل الفصل بقيثارته الحمراء الأرجوانية، وكانت أظافره الطويلة تنتقل برشاقة بين أوتارها الرنانة؛ فصار شبيها بعازف الليل. أغاني الإخوان مكري، وهي فرقة الروك، اشتهرت في المغرب أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، رددناها بحماسة وتأثر بالغين داخل الفصل، والمعلم «بيكي» يعزف ألحانها أطوارا بقيثارته. تعرفنا على الإخوة ميكري؛ حسن ومحمود ويونس وجليلة من خلال أصواتهم، التي ترددت كثيرا على مسامعنا الصغيرة. وبهذا عشنا، لأول مرة، عوالم الكورال والموسيقى عن الحب والحياة والإنسان والطبيعة، بما هي القضايا التي كان التيار البوهيمي يدافع عنها في مختلف المحافل الدولية. ويأتي بوب ديلان وجيمي هاندركس على قائمة المؤثرين في شباب العالم نهاية الستينيات، وبداية السبعينيات من خلال الروك أند رول والجاز والبلوز وموسيقى الطبيعة، وغيرها من الألوان الموسيقية الأخرى.
عندما نضع مقارنة حال التعليم بين الأمس واليوم، سنجد فرقا شاسعا، خصوصا على مستوى المبادرات، التي تخدم الجانب الترفيهي عند المتعلمين. فالمعلم قديما كانت له الشجاعة والصلاحية الكاملة ليختار الأنشطة، التي تتناسب والمناخ العام، الذي يسبح فيه التلميذ؛ سواء داخل البيت أو في الشارع أو حتى ما تبثه وسائل الإعلام. لذا، فمن الواجب أن تكون للمعلم تلك الصورةٌ المثالية في المتخيل الجماعي؛ لأنه كان حقيقة صاحب المبادرات الشجاعة والقناعات الكافية، التي افتقدناها اليوم، بفعل صرامة المذكرات، التي تنهال على قطاع التربية دون انقطاع، وتحد نسبيا من فعالية الأطر التربوية.
كاتب مغربي