وشم النخيل العاري

حجم الخط
0

لصاحب الخبز الحافي محمد شكري من يدخل مدينتك الساحرة طنجة ولم يهمس في أذن الخيال فهو غير آمن ..
كان ضوء القمر الفضي ينسكب بتوهج كثيف في خصرها المشدود.. وهامتها العالية التي تبدو كمسلة فرعونية قديمة صنعتها أياد ماهرة .. تقاسيم قوامها وتضاريسها المذهلة شيء من أسرار النهر الذي لا يعطي سره لأحد .. وتفاصيل تكوينها سِر من أسرار الكون الغامِض الذي لم يكتشف بعد.. محبة وعاشقة للنيل والأرض لدرجة الوله .. خبايا ذلك القوام الملئ بالأعاجيب شيء مثير للدهشة والجنون .. توجد فيه أشكال وخطوط رائعة تبدو كأوشام الغجر المتمردة .. التي رسمت في لحظات استغراق وانفصال تام عن هذا العالم .. طولها الشاهق وجمالها الصارخ أدهش الناظرين وحير أفكار الحالمين الذين يدعون أنهم وحدهم من يملكون فك شفرة الجمال في هذا الزمن العابث .. فكانت خير دليل لمحدودية خيالهم المتواضع .. كل يوم تعلو هامتها وتزداد إشراقاً وجمالاً.. مزهوة بحلاوة روحها ومكانتها الراسِخة في ضفة النيل الخالد كملكة نوبية.. أبصرت عيناها النور عند حافة النهر وعشقت أذنها سماع هدير أمواجه وزقزقة عصافير النيل .. فأدمنت روحها ذلك النهر لحد الثمالة..
حين غمرتها قطرات المطر في إحدى الأمسيات الخريفية كانت فرحتها مثل الطفل الصغير الذي لا يعرف قلبه سوى البراءة والنقاء.. عندما احتوتني بظلها الدافئ ونسيمها العطر شعرت بنفسي خارج هذا العالم .. وظل صدى صوتها عالق في مسمعي لزمن طويل يلازمني أينما رحلت.. ريح منعشة تتسرب في أعماقي ورذاذ مطر خفيف ينهمر في وجهي .. سألت نفسي حينها أين أنا هل أسكن بداخلها أم خارج الزمن؟ همست لها: ما أجمل رقتك وعذوبتك ونداوة روحك .. لم ألحظ ضوء الشمس في ذلك اليوم لكن لمحت شعاع من الضياء.. ينبعث من حولها يحيط المكان بهالة كثيفة من الضوء والوهج الأخاذ.. سحرني المنظر فأصبت بحالة صمت مطبق لمدة من الوقت …
قلت ذات مرة: لماذا يبدو لي هذا العالم أضيق من شبر قبر رغم إتساعه، وبعد لقياها وعناقها السرمدي قلت: لقد وجدت الآن كل أسباب الحياة.. بدأ لي العالم بشكل مختلف .. غمرتني فرحة بهيجة أزالت كل الأحزان اللعينة العالقة بداخلي ..

أيتها النخلة النيلية الشامخة
طيفك يرافقني هنا وفي كل مكان
في ساحة الفنا الأسطورية بمراكش
وبأزقة الحي المحمدي بالدار البيضاء
وبمقاطعة تمارة بالرباط في حضرة
سلطان العشاق الفيتوري

عند أضواء ياقوتة الخضراء رأيتك
ترقصين بطرب على أوتار الحنين
وفوق وديان وسهول سيدي قاسم
وخلف أمواج شاطئ أصيلة
قرب حديقة الطيب صالح

عند الكورنيش في مدينة طنجة
أجزم أنني رأيتك تطلين من خلف نافذة
مطلة صوب الأفق البعيد
بين حشود موكب ملائكي
تلويحتك الحانية ما زالت عالِقة في الفراغ
هل أعانقك الآن؟ أم أذرف دموع حارة
لوداعك يا مدينة طنجة؟
عند أبواب مدينة فاس القديمة
وشوارعها وأزقتها وأضرحتها العتيقة
منحتني زاوية صوفية.. تميمة عشق سرمدية
عمرها آلاف السنين من القرون الضوئية
عربون محبة وعشق
أدور الآن كالدرويش في حضرتك
وفي حضرة النهر الخالد
أحمل في ذاكرتي طيف وشم النخيل العاري..
يخرج صوتي بصعوبة من الأعماق السحيقة
وأظل أردد وأصرخ مثل الفيتوري في تمارة:
يا الله يا الله يا الله.
‘ كاتب من السودان يقيم في لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية