تحل هذا الشهر ذكرى ميلاد آسيا جبار (1936-2015) التي خاضت الكتابة مثل ملاكم في حلبة. في صدام مع تاريخها وتاريخ بلدها. تناوب بين تخييل وتخييل ذاتي. قبل أن يكتشف الفرنسيون آني أرنو (1940) الحائزة نوبل للآداب، كانت هناك آسيا جبار. التي جعلت من السيرة حكاية. ومن الحكايات حيوات تعيشها. في روايتها الأشهر «الحب، الفنتازيا» (1985) تتداخل حياتها مع سيرة الجزائر. تتجلى صورتها في صغرها، وهي طفلة تمسك يد أبيها وهو يرافقها إلى المدرسة، ثم تربط هذه الواقعة، مع بداية الاحتلال. وصولها إلى المدرسة يمتزج مع عودة إلى الماضي، إلى وصول الفرنسيين عام 1830. لا تطرح بداية الاحتلال من منظور يروج النصح والإرشاد (كما جرت عليه العادة في الرواية الجزائرية في القرن الماضي) بل تستلهم علاقتها مع التاريخ من حكايات استقتها من أفواه نسوة.
آسيا جبار تنطلق من المرأة وتنتهي إليها في كتاباتها، هي البطل والرجل ظل لها. كذلك الحال في روايتها الأخيرة (2007) بعنوان: «بوابة الذكريات» وهي الرواية الوحيدة التي ترجمت إلى العربية. في هذه الرواية تستعيد صورة الأب وهو يرافقها إلى المدرسة، لكنها تعرج على صورة أخرى له، عندما تكبر ويمنعها من ركوب دراجة هوائية. الأب الذي ساعدها سيكون سبباً في إحباطها. من يومها سوف تقرر الاتكال على نفسها. جعلت من الأدب بوصلتها ونشرت روايتها الأولى وهي في الحادية والعشرين من العمر، بعنوان «العطش» (1957) في خضم حرب التحرير، ما حمّلها ما لا قدرة لها عليه. تساءل مواطنوها: كيف يعقل أن تصدر رواية، تتكلم فيها عن الحب، ولا تذكر حرب التحرير؟ كأن مسؤولية الكتابة هي التأريخ للأحداث. اصطدمت مع مثقفي الجزائر، لكنها لم تبال، وواصلت الكتابة كما تعلمتها: مجازفة في الحيوات الذاتية للنساء. لم تنحز إلى السياسة ولا قضايا الراهن، كانت مؤمنة بأن الالتزام السياسي سوف يودي بالأدب إلى خندق. التزمت الكتابة وحدها، وأجلت مواضيع السياسة إلى حين. واصلت نبشها في ذاكرتها المحشوة ببقايا الحقبة الكولونيالية، من غير أن تنحدر في خطابية مباشرة. تستعين بما علق في ذهنها، قصد ابتكار شخصياتها، ثم مزجها مع سيرة ذاتية، تشتت بين الجزائر وفرنسا. كانت ذاكرة ممسوسة بألم الكولونيالية. تاريخ الاحتلال يتكرر في أعمالها، لكن على أوجه مختلفة. لا تدعي مواجهة الماضي، أو تصحيح ما جرى، لكنها «شهرزاد معاصرة» تؤمن بأن كل واقعة تاريخية من شأنها أن تصير حكاية تروى.
ضد صيغة المذكر
عندما وصلت آسيا جبار إلى الأدب، وشرعت في نشر رواياتها، نهاية الخمسينيات، من القرن الماضي، كان الأدب الجزائري يُكتب بصيغة المذكر. كانت المرأة شخصية تعبر في النص، لكنّ صوتها خافت (على غرار ثلاثية محمد ديب) كانت المرأة ذكرى في المخيلة (على غرار روايات مولود فرعون) أو امرأة غائبة، نذكرها في الغياب لا الحضور (على غرار كاتب ياسين في رواية «نجمة»). صار الأدب في الجزائر يحمل صيغة المؤنث، بفضل آسيا جبار، التي لم تغامر في استعادة التاريخ من الأرشيف أو المدونات (وهي التي درست التاريخ الحديث، في جامعة الجزائر) بل التاريخ الذي سعت إليه هو تاريخ أفراد. تستقي شهادات أناس، لاسيما النساء منهم، وتشيد عليها مسلكاً صوب رواياتها. ولم تحصر نظرها في تاريخ الجزائر وحدها، بل كذلك في تاريخ الإسلام، كما فعلت في روايتها «بعيداً عن المدينة» (1991) التي سردت فيها مصائر ثماني عشرة امرأة من تاريخ الإسلام. انطلاقاً من الذاكرة تصل إلى ميدان التاريخ، تؤمن بالفرد قبل أن تفكر في الحدث، قضت حكاية في جمع الحكايات. أليست شهرزاد نفسها جامعة حكايات؟ شهرزاد في «ألف ليلة وليلة» لا تحكي، بل تطلعنا عما سمعت عنه أو تخبرنا عن حكايات قرأتها. إنها تنقل حكايات، لا تبتكرها. ونابت عنها آسيا جبار في مهمتها. لا تبتدع حكايات، بل تعيد تشكيل «بازل» من القصص المتقاطعة في ما بينها، التي سمعت عنها أو قرأت عنها في كتب أخرى. وهو عمل شاق. يستوجب منها احترام ذاكرة الآخرين، ألا تخل بثقهم، كما يتيح لها التحرر من صوتها وذاتيتها في النص. تصير شاهدة لا مشاركة في الحدث. تنظر إلى القصص من حيز خارجي، ثم تعيد صياغتها، كي تفيدنا بمصائر نسوة، نسمع عنهن من غير أن نراهن في الحياة العامة. لم تكن آسيا جبار نسوية، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل كانت رافعة، تود إنقاذ الأخريات من أقدارهن في الظل، وليس إنقاذ نفسها وكفى.
من الشفوية إلى الأكاديمية
عام 2005، سوف تنضم آسيا جبار إلى الأكاديمية الفرنسية، وتصير أول عربية تنضم إلى هذه المؤسسة العريقة، ما أحالها إلى سؤال، تطرحه في واحدة من حواراتها، وهو سؤال شغل بالها، مثلما شغل بال مجايليها: ما هي اللغة التي نكتب بها في الجزائر؟ فالصراع اللساني لا يزال على أشده، منذ الاستقلال (1962) والبلد مقسم بين عربية وفرنسية وأمازيغية، لكن آسيا جبار حسمت أمرها: إنها تكتب بفرنسية، مؤمنة بأن تلك الصراعات، صنيع السياسة. هي تتخاطب مع نساء في بلدها بالعربية أو الأمازيغية، لكن الأدب لا يحتمل مزاج السياسة. تعلمت بالفرنسية وكبرت بهذه اللغة، لماذا يريد معارضوها منها أن تغير لغتها؟ لم تشف الجزائر من سؤال اللغة، لكن آسيا جبار كانت حاسمة، من البداية. تعلم أنها تنقل حكايات نساء من لغة إلى أخرى، وما دامت الحكايات قد صارت روايات، فلا يهم اللغة التي سوف تكتب بها. لم تجادل مع المجادلين، تمسكت بقارب الكتابة، ولم تلتفت إلى من يتجادل في اللغة. ومع مرور الوقت آمنت بأن أعمالها سوف تترجم في العربية وتقرأ كما يقرأ الأدب المحلي المكتوب بتلك اللغة. تؤمن بالتعددية اللغوية، بدل التطرف إلى لغة على حساب أخرى. فاللغة الفرنسية تموضعت في الوسط، بين رغبتها في جمع حكايات نساء ورغبتها في التحرر. لم تسأل نفسها سؤالا لسانياً، خاضت المغامرة كما تراءت لها، إلى آخر رمق.
هكذا كانت آسيا جبار، في جدال مع التاريخ، متحررة من فخ اللغة، كأنها توصينا بأن الأدب، مواجهة، لا مواربة، هو أن نكتب لا ننشغل بسؤال اللغة، كأن وصيتها تخاطب النساء، أن كل واحدة منهن بوسعها أن تصير شهرزاد أخرى.
كاتب جزائري