ظلَّ يُرتِّبُ
مَا خلَّفَهُ الحزنُ
لموتِ أبيهِ
وتعجَّبَ !
منْ صمتِ النُّسوَةِ
حينَ تراخَتْ كلُّ الأصواتِ
ولمْ تهدأْ
إلاَّ حينَ تُنهنِهُ
وتأمَّلَ حشرجةً
كانتْ تأتِيَ
منْ صدرِ رفيقِ أبيهِ
حينَ أتاهُ
ليمنَحَه بعضَ قُصَاصَاتٍ
لمْ يُمهلْهُ الموتُ لكي يُرسِلَهَا
أجلسَ في عينيهِ الحُزنَ
وأخرجَ مِفتاحَ خِزانَةِ أوراقِ أبيهِ
وتمنَّىَ ألاَّ يُهملَهَا
ومضَىَ
نظرَ إلىَ ما كانَ يُحَاصِرهُ في غُرفَتِهِ
وارتكَنَ إلىَ مقعدِهِ
ظلَّ يُقاومُ رغبَتَه
في أنْ ينظرَ مَا خلَّفَه أبوُه
وانتفَضَ لأخرِ مَا خطَّ علىَ أوراقٍ
اشْتَمَّ الدمَّ بِهَا
رائحةٌ ظلتْ تسبحُ في غُرفتِهِ
أغلقَ عينيهِ وبَكىَ
وتذكَّرَ آخرَ ما أوصَاهُ بهِ
كانَ يُودِّعُ أيامَ طفولَتِهِ
حباتِ رمالٍ سقطتْ منْ بينَ الأوراقِ
ظلَّ يُراقِبُهَا
أسكَنهَا فيْ كفَّيهِ
وقالتْ مَا لمْ تحملْهُ الأوراقُ
وتذكَّرَ صوتَ أبيهِ
وكلَّ وصاياهُ
ظلَّ يُرتبُ
ما خلَّفهُ الحزنُ
لموت أبيهِ
ليكملَ رحلتَهُ .
٭ ٭ ٭
أغلقَ مُصحفَهُ
وهوَ يُردِّدُ
«بلْ أحياءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوُنَ»
انتفضَتْ أحرفُهُ
وتطايرَ مَا أخفَتْهُ منَ الحُزنِ
وأسكتَ صوتَ المذياعِ
وقاوم رغبتَه في أنْ يبكِىَ
أمسكَ آخِرَ
مَا كانَ يُلاصِقُ صدرَ أبيهِ.. بذلتَهُ
وتحسَّسَهَا
بعضُ ثقوبٍ
غطَّتْ كلَّ سُويداءِ القلبِ
انفرطَتْ كلُّ مواجِعِهِ
آهٍ منْ غدرٍ لا يَعرفُ كيفَ أتَاهُ
حاولَ ألاَّ يُسقطَ ما كانَ يُحاولُ أنْ يحمِلَهُ
منْ آخرِ كلماتِ أبيهِ
وهوَ يُودِّعُه
«لا تبكِ إذا مَا غِبتُ
وحاولْ أنْ تُكملَنِي
وأعلمْ أنَّكَ سوفَ تُلاقِي بعضًا ممَّا لاقيتُ
وأعرفُ أنَّكَ لا زلتَ صغيرًا
وأنَّ براءاتِ عيونِك لا زالتْ تنبُتُ
وأنك لا زلتَ تُحاولُ أن تكتبَ أولّ كلماتِكَ
فاذكرنِي في بعضِ حروفِكِ
واذكرْ أنِّي قدْ غِبتُ
لكي تبقىَ ويبقىَ الوطنُ
فلاَ تتركْهُ
واعلمْ أَّنكَ حينَ ترانِي فوقَ الحَائِطِ
أنِّي مَا زلتُ هُنَا
وأنِّى حىٌ أرزَقُ
وأراكَ
فلا ترتَكن لحزنٍ يقتلُكَ
وقاومْ
ولا تجعلنِي أحزنُ
فيمَا لنْ ينفعنِي حزني
دعنِي أشعرُ أنَّكَ قدْ أدركتَ الأشياءَ
وأنَّكَ سوفَ تُحاولُ أنْ تُكملَ
ما كنتُ أحاولُ أنْ أكمِلَهُ
ولنْ يمنعنِي موتي أنْ أنظرَ وجهَ بلادِي
وأنيْ حينَ أراكَ تُواصِلُ رحلتَكَ
ستكتبُ ما لمْ أكتبْهُ
ولا تتركنِي أسقطُ في ذاكرةِ النِسيانِ
واذكرنِي عند الأبناء
وحاذرْ ممَّن خانَ.. ومنْ باعَ
ولا تتركْ وطنك يُسْرَقُ
فنحنُ لا نعرفُ غيرَه
واعلمْ أنَّكَ حينَ تُرددُ
«وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ»
فسوفَ تراِني.
المجدُ للشُّهداءِ
كنتُ أحاولُ أنْ أترجَّلَ
كيْ ما أهبِط
منْ فوقَ حروفِي
أو أترجَّلَ من فوقِ حروفِي
كىْ مِا أهبِطَ
وأشيحُ بوجْهِيَ
حينَ أحَاولُ أنْ أعبرَ
منْ أوراقِ الزَّمنِ
و أنفضَ
بعضَ حروفٍ علقَتْ بِي
وتُحاولُ أنْ تتبعنِي
فأفرُّ إلىَ وطنِي
كىْ مَا أدخلَ في كتبِ التَّاريخِ
وأقرأُ
فتحَ اللهُ عليكَ
فلاَ تحبِسْ أحرفَكَ
ودعْهَا تفردُ أجنحةً
وتُحلِّقُ
فيمَا كنتَ تُحاولُ أنْ تكتُبَ
أولّ سطرٍ
عنْ أحزانِ الوطنِ
انتفَضَ القلبُ
انفرطَ
ترجْرَجَ
وارتَجفَ
فتُزاحِمنِي الآنَ وجوهُ الشُّهداءِ
فهلْ تجلسُ
كىْ تبحثَ في لُغتِي
عنْ أىِّ حروفٍ
سوفَ تُطاوعنِي
كي أكتبُ ما ضاقَ بصدرِي
كلَّ حروفيْ قدْ فرَّتْ
فأحاولُ ألاَّ أترجَّلَ
وأعودُ ألملمُهَا
كىْ مَا أكتبُ
آاهٍ يا وجعَ الأحزانِ علىَ وطني
ويا حُزنَ الحزنِ علىَ أزهارٍ سقطَتْ
فلاَ سَلِمَتْ يدُ الغادِرِ
وإنْ سقطتْ كلُّ زهورِكَ يا وطنِي
فسوفَ تعودُ وتُزهرُ
فأطلقْ أحرفَكَ
علىَ منْ قتلَ زهورَكَ
واعلمْ أنَّك يا وطنيْ
سوفَ تظلُّ تُغرِّدُ
فيمَا سوفَ تموتُ الغِربانُ
المجدُ لوطنِي.
شاعر مصري